يا أصدقاء: الديمقراطية ليست عجلة احتياطية نستخدمها وقت «العوزة» والاضطرار.... بل هي ممارسة يومية عملية حية ومتطورة تتطور معنا ونتطور معها، وهي بالتالي ليست مجرد ألاعيب سياسية وفقاعات إعلامية، لكنها البوصلة التي توصل سفينة الدولة الى بر الأمان.
أصيب احد افراد قبيلة من آكلي لحوم البشر بالصداع مع تقيؤ شديد، وقد عاينه ساحر القبيلة.. وبعد الفحص السريري والمخبري قال له:
- ان سبب صداعك وغثيانك، انك تأكل الكثير من المثقفين هذه الأيام!
وفي رواية اخرى فقد كان يلتهم السياسيين، أما مندوبنا لشؤون القبائل فقد اكد لنا أن الرجل المصدوع كان يلتهم المثقفين والسياسيين معا، مدعيا أن إشارة وصلته من آلهة القبيلة تدعوه الى تخليص العالم من الشرور والمصائب والفساد.
قالها احد مساعدي المرحوم هتلر - ربما كان غوبلز، الأفصح بينهم - اذ صرح ذات قرن بأنه يتحسس مسدسه كلما سمع كلمة ثقافة.. كانت النازية - بحسب معلوماتي المتناقصة كالكرامة العربية - إحدى الحالات النادرة في تاريخ البشرية الذي يتناقض فيه السياسي مع المثقف - بشكل نسبي طبعا - ويا ليت هذا التناقض قد تكرر!!
المثقف والكاتب الفرنسي الكبير اناتول فرانس قال:
- انا لست مفتقرا لأية مهارة، حتى اشتغل بالسياسة.
عدا ذلك فإن المثقف ينمو ويترعرع في حضن السياسي الدافئ، رغم ان السياسي الناجح يشبه الزئبق في خواصه، اذ انه ينزلق بسهولة وكلما حاولت ان تضع يدك عليه (او اصبعك فيه) فلا تجد شيئا..!
هذا التواطؤ المعلن بين المثقف والسياسي انتج طبقة - بل طبقات - من باعة الكلام وتجار الشعارات واساتذة الـ جلاجلا.
مشكلتنا في العالم الناطق بالعربية اننا ابتلينا بسياسيين هم انصاف ساسة، وبمثقفين هم انصاف مثقفين.. لكن كل واحد منهم يعتقد جازما ان الصهيونية هي التي تقف حائلا بينه وبين الحصول على جائزة نوبل حتى الآن.
(وعاظ السلاطين) اسم اطلقه المفكر الكبير د. علي الوردي على المثقفين الذين باعوا انفسهم للسلطان منذ تحول الاسلام الى دولة مترامية الاطراف.. وتحولوا هم الى اجهزة لتزوير النص وتحوير الحديث (واختراعه احيانا) من اجل تبرير افعال الحكام.. بهذا تم تكريس الزواج غير المقدس بين السياسي والمثقف العربي .
هذا الزواج ما يزال مستمرا حتى الآن ويجدد نذوره باستمرار، لكن بفارق واحد، هو انه صار للمعارضة ايضا سلاطينها ووعاظها، تماما كما للحكومات سلاطينها ووعاظها الجدد.
جولة سريعة بالريموت كونترول المنزلي على الفضائيات العربية، فلن تجد سوى سياسي يكذب ومثقف يبرر ويخترع المصوغات الفكرية لاكاذيب السياسي - ما غيره - تلك الاكاذيب التي لا يصدقها حتى هو شخصيا (هو المثقف وهو السياسي).
حاول ان تتابع حوارا او سجالا او ندوة حتى، فستخرج منها اقل فهما وادراكا للموضوع عما كنت عليه قبل الاستماع، لا بل انك ستفقد حتى آلية التمييز بين الاشياء، وتضيع (طاستك) وبوصلتك، وتصير مجرد تائه في دول التيه.
المزعج، هو ان آكل لحوم البشر الذي تركناه يعاني من الصداع والتقيؤ في اول المقال لن يقدر على ازدراد بوصة واحدة من لحم السياسي العربي او لحم واعظ.. لأن جلودهم اقسى من جلود التماسيح، ولحومهم اقسى من لحوم التماسيح، ودموعهم اغزر من دموع التماسيح.
ghishan@gmail.com
الدستور