ينعكس الصراع الإيراني- الأميركي على المنطقة العربية من خلال حالة انشطار واستقطاب إقليمي واضحة بين محورين رئيسيين يقدّم كل منهما مناظرته السياسية على خلفية تأييده لأحد الطرفين(الأميركي والإيراني). المحور الأول يطلق على نفسه "معسكر الاعتدال" (النظام الرسمي العربي باستثناء سورية)، ويعتبر صعود إيران خطراً وتهديداً لمصالح المجتمعات والدول العربية واستقرارها، واصفاً النفوذ الإيراني بالخطر "الفارسي" (مستعيداً المفاهيم القومية)، أمّا المحور الثاني فيطلق على نفسه "معسكر الممانعة"
(سورية وحركات معارضة وقوى إسلامية رئيسة)، ولا يرى هذا المحور في المشروع الإيراني خطراً، جاعلاً من معاداة المشروع الأميركي مربط الفرس في مواقفه المختلفة (مستعيداً مفاهيم الوطنية متهماً المحور الآخر بالتبعية للإدارة الأميركية).
فعلى الرغم من التحفظات التي تثيرها قوى المعارضة العربية حول إيران وجزء حيوي ورئيسي من سياساتها الخارجية، فإنّ هذه القوى لا تتردد في إعلان وقوفها إلى جانب إيران في مواجهة المشروع الأميركي(المتحالف مع إسرائيل)، والذي ترى المعارضة العربية أنه يمثل أكبر تهديد للعرب ومستقبلهم ومصالحهم.
لا يمكن القفز على الاعتبارات الاستراتيجية والفكرية التي تستند إليها المعارضة العربية، في دعم إيران في لعبة المصالح الدولية والإقليمية. فهذه القوى تبحث عن شريك يتضافر معها في رفض المشروع الأميركي، حتى وإن كان ذلك الشريك هو خصم في ملفات أخرى. وفقاً لهذه الرؤية؛ فإنّ الوقوف "بلا موقف" حقيقي وحاسم من الصراع الأميركي- الإيراني، بمثابة السياسة السلبية. إذ في حال نجحت أميركا بتسديد ضربة عسكرية وسياسية قاصمة أو تقليم أظافر إيران في المنطقة، فستخسر الشعوب والدول العربية الحصان الأخير في مواجهة الهيمنة الأميركية والعدوان الإسرائيلي المستشري، وستفرض على الشعب الفلسطيني تسوية مذلة لصالح إسرائيل، وستتلاعب السياسة الأميركية بمصير المنطقة بلا رقيب ولا حسيب، ولن يكون مستقبل الشعوب والمجتمعات العربية إلاّ كالعراق؛ فوضى عدمية، تدمير البنية الحضارية والأخلاقية، سرقة الثروات، وبدلاً من حاكم مستبد واحد سيكون هنالك عشرات من السفاحين والمجرمين والمجانين.
إذا كانت الحكومات العربية تلوم المعارضة وتتهمها لموقفها المؤيد والمتعاطف مع إيران فإنّ موقف هذه الحكومات، حليفة الولايات المتحدة وصديقتها، أشد حرجاً وأكثر مدعاة للوم. كما أنّ موقف هذه الحكومات من إيران لا ينهض على اعتبارات قومية ووطنية، إنما يبنى على حسابات أخرى مرتبطة بالخوف على الاستقرار السياسي الهش، المستند على معادلات وموازنات أمنية لا سياسية. كما أنّ اصطفاف هذه الحكومات مع الولايات المتحدة ضد إيران يأتي في سياق الخوف من إيران ونموذجها "الأصولي" أن يجتاح المنطقة، وفقاً لنظرية الدومينو، ما يقلب الطاولة على النخب الحاكمة الحالية.
لن تجدي محاولات الحكومات العربية في الحشد والتعبئة ضد الخطر الإيراني، ولن تقنع الرأي العام بذلك. فمهما بالغت نزعة معاداة إيران لن ترقى إلى شيء من نزعة معاداة الولايات المتحدة في العالم العربي والإسلامي. ولولا أخطاء إيران الكارثية، بالتحديد في العراق وسياساتها الطائفية المستفزة لاجتاح نفوذ إيران المنطقة العربية بأسرها، وساهم بنشر التشيع الديني والسياسي من الباب الخلفي، بصورة تلقائية، دون أن تقوم دوائر إيرانية بوضع خطط لنشر التشيع ودعمه في العديد من الدول العربية، لكن السياسة الإيرانية نفسها تأتي على صورة إيران في المنطقة وتساعد على توفير ذرائع الشك والقلق من الدور الإيراني.
مشكلة الشعوب والحكومات العربية أنّ عليهم المفاضلة بين مشروعين أحلاهما مرّ. حسابات المعارضة تقوم على أنّ انتصار المشروع الأميركي يمثل تهديداً حضارياً وتاريخياً واستراتيجياً لا يمكن الفكك منه في الأمد القريب أو المتوسط بينما الخسائر المترتبة على نجاح المشروع الإيراني في إسقاط المشروع الأميركي ستكون أقل من حيث الكلفة والثمن، وستكون الشعوب العربية فيما بعد قادرة على مواجهة احتمالات الهيمنة الإيرانية المفترضة.
في المقابل؛ فإنّ الواقعية - التي تدعو إليها الحكومات العربية- تقوم على فرضيتين أساسيتين؛ الأولى أنّ إسرائيل دولة أمر واقع، لن يسمح الغرب بزوالها، وأنّ على العرب التحدث بلغة عقلانية- واقعية يفهمها العالم الغربي، بنقل المعركة مع إسرائيل إلى المجال السياسي من خلال عملية السلام، التي تحرج إسرائيل وتتناقض مع مصالحها من ناحية، وتعطي - من ناحية أخرى- أبعاداً أكثر مشروعية وسياسية وإنسانية للقضية الفلسطينية، ولتحقيق هذا الهدف على العرب الاستمرار في الضغط على الحكومة الأميركية لتعديل سياساتها تجاه الفلسطينيين، والعمل على بناء قناعة لدى صنّاع القرار في واشنطن بأنّ المصلحة الأميركية تكمن في قيام تسوية مقبولة للقضية الفلسطينية تلبي مطالب الحد الأدنى لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين.
أمّا الفرضية الثانية، التي تستند عليها الحكومات العربية، فهي أنّ الانجرار وراء الشعارات البرّاقة والدعاوى الكبيرة سيؤدي إلى إغراق الشارع العربي بأوهام غير صحيحة ونكسات وخيبات جديدة للقضية الفلسطينية بخاصة والمشهد العربي بعامة. فالناصرية والصدّامية وغيرها من المشاريع أدت إلى نكسات عربية شاملة، وكذلك فإنّ الوقوع في فخ الرهان على "إيران النجادية" اليوم سيؤدي إلى نكسة أخرى، ربما تكون أكبر من أخواتها، وسوف توظف طهران عواطف الشارع العربي ومواقفه، والقوى الفاعلة فيه، في لعبتها الإقليمية مع أميركا وإسرائيل.
مع كل التحفظات التي يمكن أن تبنى على تأييد المعارضة العربية لإيران، وهي تحفظات محقة تماماً لا غبار عليها، إلاّ أنّ النظام الرسمي العربي لا يقدم بديلاً استراتيجياً عن ذلك! إذ لا يقول لنا النظام العربي ما هي البدائل الأخرى في حال تعنتت إسرائيل، ولم تُجدِ الضغوط الأميركية عليها، هذا إن وجدت هذه الضغوط! فهل سيلجأ العرب لوسائل أخرى غير دبلوماسية السلام؟ لا نجد جواباً عربياً، حتى على مستوى الخطاب السياسي، ليقتنع الشارع العربي أنّ نظمه لا زالت على قيد الحياة، وأنّها قادرة على التفكير واتخاذ قرارات سياسية مصيرية.
حتى السيناريو الرسمي العربي المرسوم في دعم عباس لإسقاط حماس و"تأهيل الفلسطينيين" لمشروع السلام، فهو قراءة خاطئة تماماً. فحماس ليست فصيلاً صغيراً يمكن الإطاحة به، أو حركة سلمية، لا تملك قوة عسكرية ولا أمنية، حماس قوة عسكرية ولديها أجهزة أمنية محترفة، قبل أن تكون حركة سياسية فاعلة، ولن يؤدي السيناريو العربي في دعم عباس إلاّ في تأزيم الوضع الفلسطيني وتدهوره وصولاً إلى حالة يصبح فيها السلم الأهلي الفلسطيني مطلباً ملحاً بدلاً من الدولة الفلسطينية وحلم العودة وعودة القدس والأقصى الذي تجري محاولات تهويده على قدم وساق.
في العراق، أيضاً، لا يقدّم النظام الرسمي العربي، المناوئ لإيران، أي بديل للراهن المأساوي، في مقابل مشروعي الخراب الإيراني والأميركي، وإذا كان النظام العربي قد خسر الشيعة جرّاء ضحالة الرؤية السياسية والحسابات الخاطئة، فإنّه لم يكسب السُنة الذين تستولي على القوى المقاومة فيهم نزعة راديكالية أصولية تعتمد خطابا معاديا.
الملاحظة الرئيسة، في هذا المشهد العربي التراجيدي، واضحة وضوح الشمس، وهي غياب المشروع الوطني العربي المكافئ والمعبّر، ولو بالبرنامج والإرادة السياسية، عن المصالح الوطنية والقومية للشعوب والمجتمعات العربية، وكأنّ العرب عادوا مرة أخرى غساسنة ومناذرة، يتناقشون فيما بينهم: مَنْ الأفضل: الفرس أم الروم؟!
m.aburumman@alghad.jo