التحرك الذي أطلقه رئيس مجلس النواب عبدالهادي المجالي لتأسيس تيار سياسي وسطي في إطار حزب جديد لم يأتِ مبكراً دقيقة واحدة. على العكس من ذلك، جاء متأخراً جداً.
المهم أن تحركاً لملء الخواء غير المبرر في المشهد السياسي بدأ. وما بين البدء وإكمال الطريق مسافة طويلة. والنجاح يتطلب شروطاً موضوعية لم تكن متوفرة لإنجاح توجهات سابقة لتحقيق الهدف ذاته. ورغم أنه من المبكر جداً التفاؤل بنجاح المسعى الجديد لجمع الأحزاب الوسطية المتعددة في حزب واحد، لا مغامرة في الاستنتاج أن إطلاق الجهد يعكس تفاعلاً طال انتظاره مع ضرر غياب أحزاب ذات تمثيل شعبي (خلا حزب جبهة العمل الإسلامي) والانعكاسات السلبية لهذا الغياب على عملية التطور السياسي في البلد.
احتكرت الحركة الإسلامية العمل الحزبي المستند إلى قاعدة شعبية حقيقية. وهذا إنجاز يسجل لها لا عليها. لكن هذا الخلل أضر في البلد لناحية حرمانه إحدى أهم أدوات تطوير البنية الديمقراطية المتمثلة في ارتكاز العمل السياسي إلى تعددية حزبية تعمل وفق أطر منظمة تستند إلى برامج تستقطب دعماً شعبياً وتسهم في رفع سوية الحوار الوطني وتثريه بآراء وطروحات متعددة ومختلفة.
لن يلغي الحزب الجديد إن تشكل حزبَ جبهة العمل الإسلامي. ولا يجب أن يستهدف أو يتوقع ذلك. لكن المنافسة شرط التطور. تنوع العرض يفيد المواطن، ويجبر المتنافسين على تحسين المنتج. والتعددية نفع لكل من احترم حق التنوع والاختلاف الحضاري.
فشلت تجربة سابقة للمجالي في تأسيس حزب يجمع الأحزاب التي تلتقي معه في الرؤية في تجمع واحد. تعددت التحليلات لأسباب هذا الفشل. لكن يمكن اختصارها في عدم توفر بيئة سياسية داعمة وغياب البرنامج الواضح وتقدم الحضور الفردي على الطرح المنهجي.
استدراك هذه الأخطاء شرط نضوج التجربة المطروحة حالياً. وللحكومة في ذلك دور. وينحصر هذا في رفع كل القيود عن العمل الحزبي، وإنجاز التعديلات التشريعية بهدف خلق بيئة محفزة للعمل الحزبي.
لكن المسؤولية الأكبر تقع على عاتق مؤسسي الحزب الجديد. ولا حاجة لإعادة صناعة العجلة والدخول في متاهات تنظيريّة حول متطلبات النجاح. فذلك مآل طريقه واضحة: مؤسسية في العمل وقاعدة فكرية راسخة وبرامج عملية معلنة وأدوات تسويق منهجية قادرة على بناء الاقتناع الجماهيري بالفكر المطروح والبرنامج المعتمد للوصول إلى الرؤية السياسية التي أطلقت الحزب. فليس من السهل إقناع المواطن بتجاوز الحواجز النفسية ضد الانخراط في العمل الحزبي. ثمة خوف تاريخي من التحزب وعدم اقتناع بجدية الطرح الإصلاحي. إخفاق النخبة المتصدرة العمل العام في تقديم رؤية مجددة تحاكي هواجس جيل شاب وطموحاته زاد من معوقات العمل الحزبي. أي جهد لا يتعامل مع هذه الحقيقة سينتهي إلى فشل.
فقد ظلت معظم الأحزاب أسيرة طروحات أنتجتها ظروف تاريخية لم تعد موجودة. ولم تنجح هذه الأحزاب في تطوير قولها السياسي. وتعايشت مع عجزها تحقيق التفاف شعبي حولها، مكتفية بترخيص رسمي ومكاتب متواضعة وأجهزة فاكس لإرسال بيانات إنشائية تنظيريّة.
وفي تلك الأثناء، ظلت الطروحات الحكومية حول حفز الحراك السياسي المستقل في إطار القول. لا هي أجرت التعديلات القانونية المطلوبة. ولا هي غيّرت كثيراً من الممارسات التي أفقدت تأكيداتها التزام الإصلاح السياسي صدقيتها.
وحده حزب جبهة العمل الإسلامي نجح في بناء قاعدة شعبية عمادها مؤيدو حركة الإخوان المسلمين. لم ينجح أي حزب غيره في تحقيق أي تمثيل نيابي يذكر. صحيح أن الحزب استفاد من دعم رسمي سابق وحظي بالتفاف شعبي جرّاء انطلاقه من قاعدة عقائدية. لكنه أسند كل ذلك بتطوير آليات عمل حزبية فاعلة، سواء لناحية التنظيم أو لجهة التأطير.
هل يتغير المشهد الآن؟ لن يكون ذلك سهلاً. فمأسسة التحرك الجديد وتطويره وترجمته إلى برامج عمل وتجاوز "الأنا" الكبيرة لقيادات الأحزاب المرشحة للاندماج فيه مسعى سيكون صعباً بكل المعايير. لكنه مسعى حتمي. فالراهن قاصر. واستمرار هشاشة العمل الحزبي عائق رئيس أمام نجاح مسيرة الإصلاح وترسيخ البنيان الديمقراطي. ولعل في إدراك هذه الحقيقة عاملا لإنجاح هذه التجربة.