الحفاظ على الأمن والنظام العام, هو واجب أجهزة الدولة ومؤسساتها, ويجب الإقرار بأن هناك حرصا شعبيا واسعا على استمرار الاستقرار القائم في الأردن وأن هذا الحرص يمثل احد العوامل التي تمنع الكثيرين (الإضافة إلى مسببات أخرى ) من المشاركة في المسيرات والاحتجاجات.
لكن الخلط بين أشكال التعبير عن الرأي, و المعارضة, والأعمال التي تهدد أمن المواطن, وأمانه, لا يفيد حفظ أو استمرار الاستقرار, خاصة أن البلاد تمر في عملية مخاض تغييرات سياسية واقتصادية معقدة, ومن المرجح أن تكون طويلة وعسيرة.
لذا من الضروري إبقاء قنوات الاتصال والتعبير قائمة لاننا نرى ونشاهد بكل أسف وألم, انتشار ظاهرة العنف المجتمعي, التي تدل على الاحتقان ونقص الوعي عند شريحة واسعة من الشباب, التي تستبدل المشاركة السياسية بافتعال مناوشات عصبية عشائرية, تعبيراً عن حالة خوف وعدم اطمئنان, على حاضرها ومستقبلها.
نسوق هذه المقدمة, ونترك لعلماء الاجتماع مهمة التعمق في مٍسألة العنف المجتمعي, لكن نطرح تساؤلاً, وإن كان فيه بعض التكرار الضروري لأسئلة مترابطة ومٌحيرة, تتعلق هذه المرة بلجوء الدولة إلى تحويل المدنيين المشاركين في الحراك والاعتصامات إلى محكمة أمن الدولة, المثيرة للجدل, في الأوساط القانونية الأردنية والدولية, من حيث مدى دستوريتها ومساسها بحقوق الإنسان والمواطنة.
محكمة أمن الدولة ليست مشكلة أردنية بحت, بل هي تعبير لإشكالية عالمية لعلاقة السلطات بالقضاء وبأشكال التعبير السياسي, فتقوم الحكومات بوضع قوانين استثنائية, مثل قانوني مكافحة الإرهاب والقانون الوطني في أمريكا, أو إنشاء المحاكمات الخاصة, والاستثنائية, كما في دول نامية وحتى "متقدمة" عديدة, وهي عادة وسائل تلجأ إليها الحكومات لإضفاء شرعية على خروقات جدية للحريات العامة, وحتى إباحة التعذيب, في محاولة لإسكات المعارضة والتهرب من مواجهة الجذور السياسية للمعارضة التي قد تكون مسلحة, لكنها في معظم الحالات سلمية, كما هي الحال في الأردن.
التجربة أثبتت, أن مثل هذه القوانين والمحاكم, تؤدي إلى تقويض استقلالية القضاء, وحقوق الإنسان, حتى في الدول التي تفاخر بمؤسساتها الديمقراطية, وبتراث طويل, للممارسات القضائية النزيهة والمستقلة, فما بالنا عن تأثير هكذا إجراءات على دول لا تزال نسبياً في مرحلة تدعيم تطوير مهنية واستقلال القضاء?
التعديلات الدستورية, التي أقِرَت, بشكلها النهائي, وإن لم تكن بمستوى الطموح, حاولت تعزيز استقلالية القضاء من خلال تحديد وحصر صلاحيات محكمة أمن الدولة بأربع قضايا هي الخيانة والتجسس والإرهاب والمخدرات, لكن ما تم في الأشهر الأخيرة,من تحويل نشطاء سياسيين إلى محكمة أمن الدولة, يدل على أن السلطات لا تريد الالتزام بالتحديدات المكتوبة, وبالعكس تصر على تقديم المدنيين بتهم سياسية بامتياز- لتحقيق أهداف سياسية, لا توفرها إلا محكمة الدولة.
الإجراءات الأخيرة من تحويل و إدانة ناشطي حراك الطفيلة, أمام محكمة أمن الدولة, تثبت صحة تحذيرات السياسيين, والأهم المنظمات الحقوقية, العربية والدولية, من تداعيات عدم شمول التعديلات الدستورية على إلغاء غير ملتبس وقطعي لهذه المحكمة الخاصة, التي لم ولن تلقى أحكامها احتراماً أو قبولاً دولياً, سواء كانت مثل هذه المحاكم في الأردن, أم في إسبانيا, وأصر على التكرار هنا بالتذكير, بإدانة, ورفض المحكمة الأوروبية, للحكم الذي صدر عن المحكمة الاستثنائية الاسبانية, والذي أدى إلى إطلاق سراحه مؤخراً, بعد قضائه أكثر من خمسة أعوام بين السجن والإقامة الجبرية بتهم - رغم أنها غير مثبتة - لم تكن تؤدي إلى قرار يسلبه حريته في محكمة مدنية.
الجدير بالذكر هنا أن منظمات دولية, منها تابعة للأمم المتحدة كانت قد عبرت عن قلقها الشديد حول المحاكم الخاصة في الأردن,بما فيها محكمة أمن الدولة, لما لوجودها من ضرب لاستقلالية القضاء وعدالته.
نستطيع عدم الالتفات إن شئنا, لمثل هذه الانتقادات, بحجة ازدواجية المعايير, وهي حتما موجودة, ومرفوضة, لكن ماذا يستفيد الأردن من إضعاف نظامه القضائي?
التهم التي وجهت إلى شباب الحراك, و المعتقلين الذين شاركوا في اعتصام العاطلين عن العمل في الطفيلة, تتراوح بين إطالة اللسان, والتجمع غير المشروع وإثارة الشغب, حسب أحد محامي الموقوفين, وهي تهم لا تقع تحت اختصاص محكمة أمن الدولة - من دون الدخول في الجدل القائم في مفاهيم التهم القانونية والسياسية.
المفهوم طبعاً أن طبيعة المحاكم الخاصة, في الأردن وغيرها من الأماكن, لا تستوجب إثبات التهم بالأدلة والبراهين الحسية والقانونية,مما يجعل إصدار الأحكام سريعاً- وقابلة للتسييس, وفي المحصلة تكون قراراتها أقرب إلى إقرار الظلم من تحقيق العدالة.
من الواضح أن هناك قناعة لدى صانعي القرار, بأن تحويل المدنيين إلى محكمة أمن الدولة هو أقصر طريق لإنهاء الحراك, قد تكون تقديرات الدولة صحيحة, وإن كنا نختلف معها, لكن حتى لو ثبت صحة هذا التوقع, وأتوجه بسؤالي إلى رئيس الحكومة عون الخصاونة, الذي من لقاءاتي معه في سنوات ماضية, لمست منه احتراما لسيادة القانون, كيف تتحدثون عن الإصلاح وتسكتون عن ممارسات تؤدي إلى سيادة الظلم?
العرب اليوم