العنف في المجتمع والجامعات مرة أخرى
محمد حسن التل
13-03-2012 03:24 AM
* رؤساء الجامعات يجلسون في بروجهم العاجية بعيداً عن الميدان الجامعي
* تراجع كبير في مستوى ونوعيــة الأستاذ الجامعي
نهاية الأسبوع الماضي، كتبتُ في الدستور عن قضية العنف المجتمعي، وبالذات في الجامعات، هذه الظاهرة التي عادت لتلقي بظلالها الثقيلة علينا جميعاً، خصوصاً في جامعاتنا، التي قلنا إنها من المفروض أن تكون الخزان الطبيعي، الذي يَضخُّ للمجتمع الكوادرالبشرية،المسلحة بالعلم والثقافة وسعة الأفق، لتكون شريكة فاعلة وأساسية في بناء المجتمع الحديث.
أعود بعد حادثة العنف الاخيرة في الجامعة الاردنية لأقول: إذا أردنا أن نحاكم ظاهرة العنف في مجتمعنا،فعلينا تحليل الأسباب قبل النتائج، وكما الكلُّ يتحدث، نعلم جيداً عن الخلل الذي أصاب منظومة قيمنا الاجتماعية والتربوية، وصولاً إلى المنظومة التعليمية والقانونية؛ حيث تراجعت هيبة القانون بشكل كبير وخطير خلال السنوات الماضية، لكثير من الأسباب أهمها؛ أنَّ قناعة سيطرت على كثير من الناس، أنّ القانون لا يُعيد حقاً لأصحابه، وهذا عائد لكثير من العوامل أهمها: البطء الشديد والثقيل في عمليات التقاضي، وطبعاً هذا غير عائد -لا سمح الله- لضعف قضائنا، بل لتراكم آلاف القضايا في محاكمنا وأمام قضاتنا الأفاضل، الأمر الذي يشكل عبئاً من ناحية الوقت والزمن على هؤلاء القضاة، وهذا موضوع يُبحث في مقام آخر.
وبالعودة إلى موضوع العنف، وكيفية مواجهة هذا الآفة، فلن يتم الأمر إلا بإعلان كافة مؤسسات المجتمع، العامة والخاصة النفير العام، للوقوف بوجه هذه الآفة، التي باتت تعصف بمجتمعنا وبشبابنا، وحتى ننجح في هذه المواجهة، علينا العمل على مسارين متلازمين: الأول وهو الحل الفوري والسريع، ويأتي ذلك من خلال تفعيل القوانين بحزم على كل من يمارس العنف، سواء من ناحية اللفظ أو السلوك في المجتمع، وبالذات في الجامعات، وعدم الأخذ بمبدأ العفو عن أي أحد تُسوِّل له نفسه الخروج عن القانون العام، أو اعتماد مبدأ العنف بدل الحوار.بالإضافة إلى التسريع في إنفاذ العقوبات، وعدم الخضوع لأي نوع من الواسطات، والتشهير الاجتماعي بكل من يمارس هذه الجريمة بحق المجتمع والوطن، وحرمانه من حقوقه حتى المدنية، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه، ممارسة هذا التشويه الذي يؤذي الجميع.
أمّا على المسار الثاني وهو الأهم، فيجب العمل على إعادة النظر في المناهج التربوية، وتكريس مبدأ التعاون والحوار من خلال هذه المناهج، وقيام المعلم بدوره الفعَّال والمطلوب في هذا المجال، وقبل ذلك بالطبع، الأسرة التي تَقع على عاتقها المهمة الأصعب والأساس، في تنشئة الفرد النشأة السّوية في بناء الشخصية السليمة، الخالية من كل سمات العنف لفظاً وسلوكاً. ثم يأتي دور الجامعة، التي -كما قلنا سابقا- أنه يجب عليها ألاّ تعتمد في عمليات القبول، فقط على التحصيل الأكاديمي والعلمي للطالب، فما المانع أن يكون للطالب سجلاً شاملاً منذ دخوله المدرسة، حتى لحظة تقديمه طلب الدخول للجامعة؟ حيث يحتوي هذا السجل على معلومات، تُسلِّط الضوء على شخصية الطالب، وليس فقط تلك السجلات التي لا تحتوي إلا على الوثائق الرسمية، التي لا تقدم ولا تؤخر، مثل كشوفات العلامات وشهادات الميلاد وغير ذلك، وهي وثائق لا تشير إلى شخصية الطالب وسلوكه من قريب أو بعيد.
عندما يشعر الطالب أنه تحت الملاحظة، من ساعة دخوله المدرسة إلى لحظة تقديمه طلب الجامعة، وأنّ مسيرته التعليمية وسلوكه في المجتمع مرصود، ويلعب دوراً رئيساً في قبوله في الجامعة، لابدَّ أنه سيلتزم بالسلوك الاجتماعي المطلوب، بكل مراحل حياته.
وهنا يبرز مرة أخرى دور الأسرة، التي إذا أدركت أن مسيرة ابنها في المجتمع، ستلعب دوراً أساسياً في دراسته الجامعية، فلا بدَّ أنها ستعمل جاهدة على صقل شخصيته، وبنائها كما يجب من كل النواحي، بعيداً عن العنف والتمترس خلف أفكار وسلوكات مشوهة، تؤذيه وتؤذي مَن حوله، بل وتؤذي المجتمع بالكامل. وقبل كل هذا لابدّ من بناء الفرد منذ صغره، بناءً روحياً سليماً، فارتباط الفرد بقيمه الدينية السليمة من كل تشويه، قطعاً سيلعب دوراً أساسياً في بناء شخصيته بناءً صحيحاً سليماً، خصوصا إذا ترسَّخت عنده قيمة الارتباط بالمسجد، الذي يُعتبر مؤسسة اجتماعية، إضافة إلى أنه مؤسسة دينية، لها دور بارز في بناء المجتمع. وتسخيرُ القيمة الكبيرة للمسجد في تنشئة الفرد من خلال القيم الدينية، تطرد بشكل كبير وأساسي قيم التعصب والعنف من نفسية الفرد، وترسِّخُ عنده قيم التعاون والحوار واحترام الآخر.
أيضاً لابدّ من الإشارة إلى موضوع غاية في الأهمية، ويلعب دورا أساسيا وكبيرا في مواجهة آفة العنف، وغيابه شكّل عاملاً أساسياً في تنامي هذه الآفة، وهو تراجع النشاطات اللامنهجية في الجامعات، بل نكاد نقول اختفاؤها بالكامل، سواءً الفكريّة أو الترفيهية المنهجية، أو السياسية العامة أو حتى الرياضية، ناهيك عن انسداد سبل التواصل والحوار بالكامل، بين إدارات الجامعات المختلفة، سواءً على مستوى الرئاسة أو عمادات الكليات أو عمادات شؤون الطلبة وحتى الهيئات التدريسية؛ فرؤساء الجامعات معظمهم - إن لم يكن جُلهم - يجلسون في بروجهم العاجية، وبين حاشيتهم في مكاتبهم، ليس لهم علاقة بما يدور خارج مبنى الرئاسة، لا يهمهم سوى اللقب (والبرستيج)، واستقبال الضيوف وتوديعهم، والوقوف أمام الكاميرات، كذلك عمداء شؤون الطلبة، الذين يجب أن يكونوا على تواصل مستمر مع الطلبة، ورعاية شؤونهم من كافة جوانبها، وبالطبع هذا أمر يكاد يختفي من جامعاتنا بالكامل.
أمّا أعضاء الهيئات التدريسية، فحدث ولا حرج عن الخراب الذي طال قطاعاً كبيراً منهم، من ناحية المستوى العلمي،والثقافة العامة، ناهيك عن أن الكثير من هؤلاء، تدور شكوك كثيرة حول طريقة حصوله على شهادة الماجستير أو الدكتوراه، كذلك ضعف الانتماء للجامعة، والمجتمع والوطن، وحتى المظهر الخارجي، لم يعد في كثير عند هؤلاء يليق بمرتبة التدريس في الجامعة. وتحوّل معظمهم إلى ملقنين، حيث يدخل الأستاذ قاعة المحاضرة فيفرغ ما لديه من معلومات أمام الطلاب، وهو ينظر إلى ساعته مستعجلاً لحظة الخروج من القاعة، دون أن يتحدَّث مع طلابه خارج سياق المعلومات العلمية، حتى ولو خمس دقائق، لفتح حوار مع الطلبة في أي قضية عامة. وهناك مئات الأساتذة في الجامعات، وخلال فصل كامل، لا يحفظ الواحد منهم اسم طالب واحد من طلابه، الأمر الذي قطع سبل الحوار بين الطالب وأستاذه، وأمام هذا الوضع المزري من التخلي الكامل عن الطالب، وقع هذا الطالب في براثن أفكار اجتماعية مشوهة تمترس خلفها، فكانت هذه النتيجة التي وصلنا إليها جميعاً. كل هذه العوامل وغيرها اجتمعت، فكان هذا الوضع الذي عصف ويعصف بشبابنا ومجتمعنا.
أمَّا موضوع الأمن الجامعي فالحديث عنه يطول، فالأمن في الجامعات لم يَعد يقوم بواجبه لا من قريب ولا من بعيد، نتيجة الترهل الذي أصابه من خلال طرق التعيين، وبالتالي عدم اختيار الكفاءات، والغياب التَّام لعمليات التأهيل لعناصر هذا الأمن. فلم يعد الأمن الجامعي يمارس دوره بالمفهوم الذي كنا نراه في الجامعات، في السبعينات والثمانينات حتى منتصف التسعينات، الأمر الذي أدى إلى ضياع هيبة هذه الحلقة في إدارة الجامعات. ففوضى الدخول والخروج من الجامعات حاضرة بقوة، ووصلت الأمور إلى إدخال أسلحة نارية إلى الحرم الجامعي، وغَيْرُ الطلاب يملأون ساحات الجامعات الأردنية، حتى وصل الأمر بالكثير من هؤلاء إلى عقد مواعيد غرامية داخل الجامعات. حدثني بعض الطلاب، أنه أحياناً إذا وقعت مشاجرة في الحرم الجامعي، أمام أعين بعض عناصر الأمن، يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. المطلوب إذا إعادة النظر بشكل كامل، بمفهوم واجب ودور الأمن الجامعي، وكذالك إعادة النظر بطريقة الاختيار، والتأهيل المستمر، وإعادة الهيبة له، حتى يستطيع أن يمارس دوره كما هو مطلوب منه، في الحفاظ على هيبة الحرم الجامعي، بما فيه من طلاب وأساتذة وموظفين ومبانٍ وممتلكات عامة، وقبل كل هذا احترام القانون.
إن محطات طريق مواجهة العنف الجامعي كثيرة لا بد من التعامل معها للوصول إلى النتيجة المرجوة، أولها إعادة النظر بسياسة القبول الموحد حيث أثبتت هذه الطريقة في قبول الطلبة أنها غير مجدية، كذلك لا بد من إعادة النظر في عملية توزيع الطلبة على الجامعات على مساحة الأردن، إذ ليس من المعقول أن طالب السلط يدرس في جامعة البلقاء التطبيقية، وطالب اربد يدرس في جامعة اليرموك أو العلوم والتكنولوجيا وكذلك ابن معان أو الطفيلة أو عمّان يدرس في نفس مدينته، لا بد من عملية خلط لأبناء الوطن من خلال القبول المتنوع في الجامعات، وذلك لإفساح المجال أمام الطلبة لتوسيع مداركهم واكتساب ثقافات جديدة وبالتالي الابتعاد عن العصبية إذ عندما يجد الطالب نفسه بين ثقافات مختلفة وأبناء محافظات مختلفة يكون لزاماً عليه التعامل بطريقة مختلفة مع هذا الوضع الإيجابي بدل أن يجد معه في غرفة المحاضرة أو في ساحة الجامعة ابن عمه أو ابن خاله أو ابن جيرانه فقط، فلا يشعر أن هناك شيء اختلف عليه عما كان وضعه في المدرسة.
وعلى طريق إصلاح التعليم الجامعي لا بد من إعادة النظر في الاستثناءات وانتاجها من جديد، لتؤدي دورها الوطني كما هو المرجو منها، ويجب ترسيخ مفهوم المسؤولية المزدوجة لدى الطالب الذي يستفيد من أي نوع من الاستثناءات حيث عليه أن يعلم أنه يدرس على حساب مؤسسة رسمية وبالتالي عليه أن يكون أكثر شعوراً بالمسؤولية، لا يحول الاستثناء إلى ميزة سلبية يعربد من خلالها على بقية الناس ويشعر أنه مميز عن غيره، فالميزة جاءت لأبيه وليست له، سواءً كان أبيه عسكرياً أو معلماً أو غير هذه التخصصات المشمولة بالاستثناءات.
لقد فشل الجميع في التعامل مع الشباب في مرحلة المراهقة، وهي للأسف نفسها مرحلة الجامعة، وتركوه نهباً لكل ما هو مشوه من افكار ومعتقدات اجتماعية مغلوطة، كالتعصب الأعمى للبلدة والمدينة والعائلة والعشيرة، وحقنت افكارهم بكل ما يدعو للتشنج والعصبية، ولعبت ما تسمى ظلماً «الاغنية الوطنية» - وهي بعيدة كل البعد عن الوطنية - دوراً كبيراً في العنف الناتج عن التعصب، فهذه الاغنية في معظمها كلمات متشنجة ومعان عصبوية، لا تخاطب روح الوطنية في الشاب، بل تخاطب عصبيته وتضيق تفكيره، بل تلوثه في أحيان كثيرة، لذلك على كل المؤسسات الوطنية المعنية سواء وزارة الثقافة او مؤسسة الاذاعة والتلفزيون او نقابة الفنانين او رابطة الكتاب أو دائرة التوجيه المعنوي في القوات المسلحة، ان تتدخل وتتنبه لهذا الأمر الخطير من الفن الهابط، الذي بات يعيث خراباً في المجتمع، تحت لافتة الوطنية.
كنا نسمع اغاني وطنية لشعراء كبار, تخاطب في الشاب وتنمي فيه روح الانتماء الوطني العام بمفهوم الوطن الشامل وتتغنى بأمجاد وطن, لا بأمجاد عائلة او عشيرة او حي في مدينة.
إنّ آفة العنف المجتمعي، وبالذات الجامعي، بدأت تؤثر على الوجه العام لمستوى التعليم العالي لدينا، بعدما كنا نُفاخِر الجميع بالمستوى الذي وصلنا إليه في هذا المجال.
العنف المجتمعي، وعلى رأسه عنف الجامعات، حلقات متواصلة لابدّ من العمل على تفكيكها، من خلال إعادة النظر -كما قلنا- بالمسيرة التربوية والتعليمية للأجيال، من خلال المناهج وإحياء القيم النبيلة في نفس الفرد منذ نشأته، وتفعيل جميع مؤسسات المجتمع، للقيام بدورها الوطني المطلوب في هذا المجال، حيث كما قال جلالة الملك عبدالله الثاني أمس الأول أن ظاهرة العنف أصبحت لدينا مقلقة، وتهدد قيمنا كافة.
الدستور