عن ارنستو تشي غيفارا .. في اربعينيته!
محمد خروب
09-10-2007 03:00 AM
في التاسع من تشرين الأول عام 1967، كانت الاوامر الاميركية وتحديداً من عملاء وكالة الاستخبارات سي أي ايه، قد صدرت للمجموعة العسكرية البوليفية، التي القت القبض على الثائر الارجنتيني الأممي، المولع بالادب والسياسة والفلسفة، ذائع الصيت والمقاتل الاسطوري، لما توفر عليه من نقاء ثوري وتواضع واستعداد لدفع حياته ثمناً لقناعاته، الطبيب ارنستو تشي غيفارا، بتصفيته بدم بارد دون محاكمة ودون أي اعتبار لوضعه كأسير حرب، او جريح اصيب في المعارك، مع قوات الحكومة البوليفية العميلة لواشنطن، والتي لم تكن قياداتها السياسية والعسكرية سوى دمى في يد المخابرات المركزية.يقول فيليكس رودريغيز وهو عميل سابق في السي اي ايه من اصل كوبي وكان الشخص الأخير الذي شاهد غيفارا قبل اعدامه o.. بعد ان عدنا الى الداخل تلقيت مخابرة على جهاز اللاسلكي من اعلى سلطة عسكرية بوليفية. كانت الرسالة (500 - 600) وتعني موته فالرقم 500 كان يرمز الى تشي و600 يرمز الى موت و700 يرمز الى حياةa اقفلت السماعة وخرجت من الغرفة وقلت للضابط تيران اطلق النار على مستوى الصدر والبطن ولا تجعل الوجه يصاب بتشوه. ما ان خرجت حتى سمعت رشقا من الرصاص كانت الساعة الواحدة ظهرا و20 دقيقة من نهار الاحد 9 تشرين الاول 1967 . oجزء من تحقيق طويل نشرته صحيفة الاكسبرس مؤخرا بمناسبة اربعينية غيفاراa.
اربعون عاماً مضت على تصفية احد رموز الثورة العالمية المعاصرة، وأحد ثلاثة نجوا من هجوم فاشل شنوه على قوات الحكومة الفاسدة، من على سطح زورق متهالك سقط فيه معظمهم بين قتيل وجريح وأسير، استطاعوا ان يسقطوا حكم الديكتاتور الكوبي باتيستا، رغم كل ما تمتع به من قوة ودعم غير محدود من واشنطن، ورغم الضعف والانهاك اللذين لحقا بصفوف الثوار، الذين نظموا حرب عصابات صعبة وشرسة، وتحملوا فيها كل شظف الحياة وصعوبة اللجوء الى جبال كجبال (سييرا مايسترا) الكوبية، وسط بيئة معادية (ما لبثت ان انحازت اليهم)، الى ان نجحوا في دق باب العاصمة هافانا، في كانون الثاني 1959، على رأس ثلاثماية مقاتل فقط واطاحة دمية واشنطن الفاسد والمستبد..
قد يتساءل كثيرون عن سر هذا الحنين الى غيفارا، بعد ان شبع موتاً، وبعد ان انهارت الثورة الاشتراكية العالمية، التي كان غيفارا أحد فرسانها، وبات الان قديسها، الذي يزداد حضوراً في المشهد الدولي ويزداد عدد الذين يستلهمون انموذجه في التواضع والانحياز للفقراء وكراهية الظلم والاستبداد والنهب المنظم الذي تمارسه الاحتكارات الاميركية، خصوصاً في اميركا اللاتينية التي جعلت منها شركات الفواكه، حديقة خلفية للولايات المتحدة، مجالاً حيوياً واستراتيجياً، وخزانا لا ينضب للنهب وغسيل الاموال ونشر فرق الموت وتنظيم الانقلابات العسكرية وتبني الانظمة الديكتاتورية الفاسدة والقامعة لشعوبها.
لماذا الحديث عن تشي غيفارا في يوم إعدامه الذي فرحت له دوائر البيت الابيض واجهزتها الاستخبارية ورهط الانظمة الديكتاتورية التي كشفت وثيقة نشرت يوم امس الاثنين، عن خطة اسمها كوندور تروم تصفية المعارضين السياسيين في ستة انظمة قمعية، جاء فيها ان استخبارات تلك الدول الست طاردت غيفارا ولاحقته الى ان تمت محاصرته في احدى قرى بوليفيا النائية في مثل هذا اليوم قبل اربعة عقود..؟.
الحديث عن غيفارا في مناسبة اربعينية، يكتسب اهمية اضافية ليس فقط في التأمل في الحال التي هي عليها كوبا الاشتراكية، حيث ينتظر كثيرون بلهفة اختفاء قائد ثورتها فيدل كاسترو، الذي شكل النموذج الآخر لغيفارا، وان كان الاخير تميز بجموحه وثوريته غير المؤطرة بحدود او ضوابط واراد نشر الثورة العالمية في كل مكان، ظن أن بامكانه ان يدمي الامبريالية والانظمة الفاسدة والمستبدة التي جاءت بها، فذهب الى الكونغو لكنه صدم وحصد الخيبة بعد أن شاهد قادة الثورة الذين خلفوا باتريس لولمبا، وعلى رأسهم لوران كابيلا الثائر الماركسي، يعيشون في الفنادق ويتنقلون بين العواصم ويبحثون عن الاضواء والشهرة فيما شعبهم يعاني القهر والفقر والحيرة، جراء الفراغ الهائل في القيادة وجهل الكوادر والافتقار للتدريب والوعي السياسي وروح المبادرة وخصوصاً التفاؤل والتسلح بالنظرية، ما اضطره الى مغادرة الكونغو والذهاب الى قارته، اميركا اللاتينية، حيث اراد ان يبدأ من بوليفيا لكن مشروعه انتهى للاسف فيها.
غاب غيفارا جسدا لكن سيرته ما تزال تجد من يرويها، ومن يتمثلها ومن يحاول احياءها بهذه الطريقة او تلك.
للشامتين بما انتهت اليه مغامرة تشي غيفارا، ان يتريثوا قليلا لأن رهاناتهم على المشروع الاميركي تبدو فاشلة، ولن يحصدوا غير الخيبة في ظل كل هذا التردد والارتباك والعجز، الذي تظهره القوة الكبرى الوحيدة في العالم، والتي خسرت كل ما تبقى من صدقيتها، وسقطت كل ادعاءاتها ومزاعمها المزيفة والكاذبة عن، الحرية والديمقراطية والقيم والمثل النبيلة وحقوق الانسان والحق في محاكمة عادلة وحق الشعوب في تقرير مصيرها ومنع التعذيب وخصوصا الالتزام باتفاقية جنيف الرابعة وتصفية الاستعمار ولم تكتف بادارة ظهرها لكل ذلك، بل ذهبت بعيدا في ازدراء الارادة الدولية عبر الانسحاب من اتفاقية كيوتو الخاصة بالاحتباس الحراري، ورفض التوقيع على قانون المحكمة الجزائية الدولية، والاستخدام غير المشروع للسجون السرية الطائرة وغير الطائرة، واستمرار العمل بسجن غوانتانامو، ولا تسل عن سجن ابو غريب ولا عن جرائم شركات الامن الخاصة مثل بلاك ووتر التي تقتل العراقيين بدم بارد، وتنهب من ثرواتهم المليارات، فقط لان مؤسسها هو احد اكبر المتبرعين لحملتي بوش الانتخابية الاولى والثانية..
لماذا استحضار ذكرى تشي غيفارا؟.
لان الرجل اثبت طهرا ثوريا وزهدا في المناصب والثروة والوجاهة وقال في رسالته الشهيرة لرفيقه فيدل كاسترو عندما يمم وجهه نحو افريقيا واميركا اللاتينية طافحا بالاحلام الثورية وبأفكار التحرر والانعتاق: اشعر انني اتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على ارضها، لهذا استودعك واستودع الرفاق واستودع شعبك الذي اصبح شعبي.. اتقدم رسميا باستقالتي من قيادة الحزب ومن منصبي كوزير وعن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيء قانوني بكوبا .
هذا هو ارنستو تشي غيفارا الذي اعدم في مثل هذا اليوم من عام 67.
غيفارا بقي حياً رغم موته.. فيما احياء اليوم من القتلة والمستبدين اموات رغم كل ما يقولون من كذب وما يحيط بهم من هالات مزيفة ومصطنعة، ودائماً في خدمة الولايات المتحدة الاميركية ومصالحها الاستراتيجية لا مصالح شعوبهم.
kharroub@jpf.com.jo