باب الحارة .. والتلفيق الدرامي
عاطف الفراية
08-10-2007 03:00 AM
باب الحارة.. حارة شامية.. أبو كامل.. حمام القيشاني.. ليالي الصالحية..نمط من الدراما السورية يجتر حكايات الحارة الشامية القديمة وأنماط علائقها البشرية ليقدم نماذج الفتوة.. النخوة.. الطاعة العمياء للكبير.. (واضطهاد المرأة على أنه أصالة).. وغيرها من قيم يتم تقديم بعضها بوعي وبعضها بلا وعي فيما أحسب
.. مما يجعل الأمور تلتبس على المتلقي الواعي بشكل يجعله غير مميز بين (ما هو إدانة.. وما هو إشادة) في الخطاب الدرامي الذي يتبناه العمل..أما المشاهد العادي فيجره إلى التعاطف حتى مع التخلف!! ولأن (الصديق العموني الرقمي هشام غانم) والذي لم ألتقه (إلا عبر الماسنجر) قد أجاد في تحليل مسلسل باب الحارة (سيميائيا) في مقالته بموقع عمون.. بشكل أهّل هشام ليحمّل مختلف التفاصيل إشارات دلالية بعضها يحتمله العمل وبعضها ينبئ عن عين خاصة لمشاهد خاص أو محترف .. ثم ألح عليّ أن أكتب هذا المقال مدعيا أن مقالته ناقصة!!.. فإنني سأتناول فقط الجانب البنائي الدرامي الذي تركه في مقالته.. تجنبا للتكرار..
بدأ المسلسل في جزئه الأول في رمضان الماضي متكئا على شخصية محورية (الهدعشري) الذي التصق به هذا الاسم بمبرر درامي لم يخدم العمل ولا الشخصية في شيء.. وهو أن إحدى قدمية فيها ست أصابع .. شخصية مشتعلة يحملها عتّال فقير ينوء بفقره ويتطلع إلى الثراء المفاجيء الذي يجعله يرتكب جريمة سرقة أفضت إلى جريمة قتل.. دخل بعدها في معترك الضمير الإنساني.. ودوامة الكوابيس المزعجة.. ثم تدرج العمل في معاقبته من خلال بنية درامية سطحية وساذجة جدا تعتمد على خط (دراما انتقام القدر)!!! حيث تموت زوجته.. ويموت ولده بلدغة أفعى.. وتصاب ذراعه (بالغرغرينا) فيتم قطعها.. وهكذا إلى أن يعترف أمام الناس بجريمته ويطلب السماح.. يتخلل تلك القصة البسيطة والقصيرة والممطوطة أحداث مفبركة ومواقف ملفقة وحوارات هزيلة تجري بين شخصيات من ذوات البعد الواحد.. والتي لم يتطور بناؤها الدرامي على مدار العمل.. بل كانت جميعها تتحرك من خلال بنى شخصيات مسطحة وأحداث ملفقة تستجدي المشاهد أن يتابعها ليبقى في حالة انتظار لما سيسفر عنه الخط الدرامي الأساس.. متحملا على نفسه متابعة قسرية للخطوط الدرامية الموازية التي ملأت الحلقات الثلاثين بالثرثرة والنكايات والمناكفات الاجتماعية .. ولولا موهبة بسام كوسا الفائقة وأدائه العالي وتقمصه الشخصية المحورية بأبعادها وحالاتها النفسية المختلفة لكان العمل كله مجموعة من الثرثرة الاجتماعية المتأثرة بموجة المكسيكي..
ولعل هذه السطحية والسذاجة في الطرح جعلت القائمين على العمل يعيدون النظر في الجزء الثاني في مسألة منح الشخصيات الأخرى اشتعالاتها الخاصة من أجل إعادة التوازن للعمل ليتوازى فيه أكثر من خط درامي يتحمل جريان أحداث تكفي لشد المشاهد نحوها .. وبما يملأ الحلقات الثلاثين الجديدة .. فلما كان (الهدعشري) محركا للحدث في الجزء الأول.. جيء بمقابل له في الجزء الثاني (أبو غالب) ليكون مصدرا لزرع النزاع بين الحارتين .. لهثا خلف الأحداث الساخنة التي يطلب منها كسر الرتابة التي أوقعت المشاهد في الملل والتي جعلت العمل مجرد يوميات ..
وسعيا وراء بناء شخصية (أبو غالب) وتبرير سلوكاته فقد تم إقحام قصة عائلته التي فقدها وتأثير ذلك على نفسيته الانتقامية.. وهو ما لم تتم الإشارة إليه في الجزء الأول.. ذات الشيء بالنسبة للحكيم (عباس النوري) الذي أريد له أن يكون الشخصية المحورية بعد غياب (بسام كوسا) فقد تم تلفيق الأحداث حوله من طلاق زوجته للمرة الثانية.. إلى مبيته في الدكان.. إلى اكتشافه أسرار اللصوص.. وسر (صطيف الأعمى) المفتعل الذي لم يكن سرا بالنسبة للمشاهد منذ الجزء الأول..
كذلك تم تحريك بعض الشخصيات لمنحها أهمية في الحدث خصوصا الجيل الثاني ..معتز.. عصام..عبده..إبراهيم.. وغيرهم.. لكنها حركة غير سوية .. فعلى سبيل المثال فقط.. كيف يستقيم أن يخطب الأب الصارم لابنه فتاة بقرار لا شأن للشاب فيه حسب الأعراف التربوية التي عودنا عليها هذا النمط من الأعمال وحسب الثقافة التي ربما أراد ترسيخها.. ثم يتم طلاقه منها برغبة الأب أيضا.. ثم يقع الفتى فريسة المرض بالعشق والندم والإحساس بالفقد؟ تجاه فتاة لم يعرف عنها شيئا وربما رآها مرة أو مرتين.. (وبقدرة قادر) يحجم أهل الحارة كلهم عن تزويجه أيا من بناتهم انحيازا لابنة الحكيم التي تركها.. ومثل هذا (التلفيق) في الحدث الدرامي كثير جدا ..
ولأن فريق العمل غير ممتلئ قناعة بأن مجموع الخطوط الدرامية الاجتماعية ذات الحوارات المسطّحة كافية وحدها لإقحام المشاهد في جو العمل فقد لجأ إلى حيلة تلفيقية غير متقنة تتمثل في إقحام بعض الشخصيات في حالة نضالية تكسب العمل بعدا وطنيا.. فمنذ الجزء الأول كان هناك محتل فرنسي.. وهناك تبرعات للمجهود النضالي.. واستمر هذا الخط في الجزء الثاني منفصلا تماما عن بنية العمل ومقحما فيه إقحاما غير منسجم مع أي من أحداث الحارة.. فلم يظهر لهذا الاحتلال أي أثر في مجريات الحياة ولا في الحوارات التي بقيت تدور حول اليومي العادي من إفطار وغداء وعشاء ومماحكات .. والغريب أن العمل قدم لنا أسوأ الأمثلة عن الجانب الرسمي في مجتمع الحارة وهو رجال الدرك الذين يعتاشون على الرشوة والأتاوة دون أن يكون لهم أي حضور في فرض الأمن أو في أي مشاركة مجتمعية.. وهؤلاء افترضهم العمل من أبناء جلدتنا ولم يظهر لنا ولو بإشارة واحدة ارتباطهم بالمحتل.. وقدمهم لنا على أنهم يعيشون مع مجتمع الحارة حالة (صفقة تصالحية) تقوم على غض الطرف عن كيفية إدارة المجتمع مقابل بعض الرشاوى.. هكذا بكل سذاجة.. مما يجعل الجانب المتعلق بالاحتلال الفرنسي والمقاومة خطا دراميا ملفقا وملصقا إلصاقا في العمل دون قدرة على إقحامه في بنية الحدث بشكل فعلي ومؤثر.. لمجرد استجداء المشاهدة ومحاولة فاشلة جدا لصبغ العمل بصبغة وطنية..
سأخرج من تفاصيل العمل لأشير إلى مسألة تتعلق بالمشاهدة. لقد وعى القائمون على الدراما تلك الحاجة الملحة عند الناس لشكل ولو خارجي زائف من أشكال البطولة.. وهي رغبة ناجمة عن فقدان البطولة في الواقع المعيش فقدا يدفع النفس للبحث عنها في المتخيل.. وأشواق المتعة البصرية لدى المشاهد العربي جعلت القائمين على الدراما منذ ظهور (الفنتازيا) يقدمون لنا سيوفا وأفراسا ومبارزات في ثوب عمل درامي طويل.. تجعل المشاهد ينظر إلى الحلقة منتظرا مشهد المبارزة (كانت عادة بين سلوم حداد ورشيد عساف مثلا) بحيث يبدو كل ما في العمل من أحداث ملفقة مجرد مسوغ للوصول إلى تلك اللحظة.. أما في (باب الحارة) والنمط الذي ينتمي إليه (الواقعية المزعومة في مقابل الفنتازيا الجامحة) فقد استعيظ عن ذلك بمبارزة الخناجر.. وما حولها من أحداث ينبغي أن يفضي إليها..
يبقى أن هذا العمل كغيره من أعمال درامية كثيرة هي في حقيقتها عملية يملك مفاتيحها المعلن وصاحب الرعاية الذي يقرر عدد حلقاتها وعدد إعلاناتها والكثير من وجوهها فقط. ومنذ بدأت الدراما في الرضوخ لاشتراطات الراعين والمعلنين فقدناها فنا.. واستحالت مشروعا تجاريا فقط..
http://atefamal.maktoobblog.com/