ما يجري حاليا في مصر امر يستحق التوقف عنده بامعان، ليس بسبب انعكاساته الداخلية، وانما علي المنطقة العربية بأسرها، لان مصر ظلت دائما البوصلة التي تضبط ايقاع المنطقة واتجاهاتها، فإذا مالت الي اليسار مالت معها، واذا تبنت القومية اتبعتها الاكثرية، واذا حاربت حاربنا واذا تفاوضت اصبح التفاوض مبررا بل واستراتيجية.
ان تحتجب اكثر من عشرين صحيفة يومية واسبوعية، مستقلة ومعارضة، عن الصدور في مصر احتجاجا علي احكام بالسجن صدرت في حق سبعة صحافيين بينهم خمسة رؤساء تحرير وتضامنا معهم، فهذا يعني ان النظام الحاكم بدأ يفقد الكثير من هيبته بعد ان فقد اعصابه، وبات يتخبط في قراراته، ويتصرف كالنمر الجريح، وبطريقة تعيد الي الاذهان تصرف سلفه في ايامه الاخيرة.
القضاة بدأوا التحرك انتصارا لمهنتهم، والتدخلات الاستفزازية في ادق تفاصيلها، ثم تبعهم العمال، والمحامون، والآن جاء دور رجال الكلمة، وفرسان الاعلام، وهذه كلها تنبئ بمرحلة جديدة من الاضطرابات تتسع دائرتها يوما بعد يوم، وقد تتطور الي انتفاضة شعبية عارمة لا تتوقف الا بازالة النظام او رضوخه لمطالب الشعب بادخال اصلاحات جذرية سياسية واقتصادية تضع حدا لحال الفساد المستشرية حاليا في اوساط الطبقة الحاكمة، والفئة المحيطة بها.
النظام الحاكم ارتكب خطيئته الكبري عندما اعتقد ان قمعه للصحافة، وارهاب بعض رؤساء التحرير المتمردين علي دولة الفساد، ومصادرة الحريات، ستؤدي الي حماية النظام، وتعزيز قبضته، وتسهيل مخططاته في التوريث، ولكن النتائج جاءت عكسية تماما، وشاهدنا اكبر مظاهرة تضامن بين ابناء مهنة الصحافة واصحاب الرأي والكلمة، لم تشهد مصر مثيلا لها علي مر عصورها.
احكام السجن التي صدرت في حق رؤساء التحرير لم تصدر لانهم ارتكبوا جنحة القذف والسب، والتطاول علي شخصيات عامة او خاصة دون اثبات قانوني مثلما يروج النظام، وانما لانهم انحازوا الي وطنهم ومصلحة مواطنيهم ومارسوا حقهم في التصدي للفساد وتغول الاجهزة الامنية في قمع المواطنين، واحتكار فئة صغيرة، تمثل اقلية الاقلية، لمقدرات البلاد، والتحكم في ثرواتها، واقامة دولة داخل الدولة خاصة بهم.
نقر بحق الحكومة المصرية في حماية الاشخاص من تجاوزات الصحافة، ونهشها في ذممهم المالية والعائلية، والخوض في قضايا محرمة دون ادلة واسانيد دامغة، ولكن اليس من حقنا ان نسأل عن البادئ في هذا النهج.. اليست الصحافة الحكومية هي التي مارست، وعلي مدي الثلاثين عاما الماضية، نهش الاعراض، وتشويه المعارضين للنظام، وفبركة القصص عن حياتهم الشخصية والعامة؟
الم تستخدم الحكومة المصرية رؤساء التحرير في ما يسمي الصحف القومية للتطاول وبكلمات مسيئة يعف القلم عن ترديدها، علي زعماء ومسؤولين بل وصحافيين وكتاب عرب اختلفوا مع النظام، او اختلف النظام معهم، وهو الاسلوب الذي دمر الاعلام المصري، وافقده مصداقيته وتأثيره سواء داخل مصر او خارجها؟
لم نسمع او نقرأ عن رئيس لتحرير احدي الصحف القومية المصرية قد جري تقديمه الي اي محكمة بتهم السب والقذف ونهش الاعراض، والتطاول علي الناس، ناهيك عن صدور احكام بالسجن في حق هؤلاء، بل ما حصل هو توفير الحماية القضائية والشخصية لهؤلاء من قبل الحكومة بمنحهم عضوية مجلس الشوري.
نحن مع الحكومة في مسعاها لتكريس الضوابط المهنية التي تحمي الناس من الصحافة المنفلتة التي لا تميز بين حرية الرأي والقذف في حق الاشخاص، كبارا كانوا او بسطاء عاديين. ولكن هذا المسعي يظل ناقصا او مشبوها في ظل غياب قضاء عادل مستقل.
في بريطانيا حرية صحافة، ويستطيع اي عابر سبيل ان يصدر صحيفة او مجلة او محطة تلفزيونية، ودون ان يتقدم الي الحكومة للحصول علي ترخيص ولكن هناك قوانين صارمة تحمي المواطن من اي قذف في حقه تصل الي غرامات وتعويضات باهظة كفيلة بافلاس رئيس التحرير وصحيفته اذا لم يبادر بالاعتذار ونشره في مكان بارز في صحيفته وتعويض المتضررين عن تطاوله غير الموثق بالادلة والبراهين.
ومن المؤسف ان بعض المسؤولين، والامراء والتجار العرب، الغارقين في الفساد، لجأوا الي القضاء البريطاني لمحاكمة صحف عربية لمجرد انها تطرقت الي بعض اوجه فسادهم، ولانهم يملكون المليارات التي تؤهلهم للجوء الي كبار المحامين، ومعظم دول هؤلاء لا تملك قضاء مستقلا، ولا تسمح لاي احد بمقاضاة صحفها اذا ما تطاولت علي مواطنين عرب داخل دولهم او خارجها.
جميع قوانين النشر في الدول المتحضرة تمنع اعتقال الصحافيين وسجنهم، مهما كانت جريمتهم المهنية، ولكنها لا تتردد لحظة في اصدار العقوبات الرادعة التي تنصف الضحية، من العامة او المسؤولين، سواء علي شكل غرامات او تعويضات مالية، علاوة علي الاعتذار امام محكمة عامة وفي الوسيلة الاعلامية المدانة نفسها.
امراء كبار في الاسرتين الحاكمتين في المملكة العربية السعودية والكويت جرجرونا في المحاكم البريطانية، وشنوا علينا حروب استنزاف مالية، لان مصاريف المقاضاة باهظة التكاليف، وبعضهم حصل علي تعويضات مالية علي امل تركعينا واذلالنا وتطويعنا، او اغلاقنا، وعندما حاولنا ان نرد علي تطاول اعلامهم باللجوء الي قضائهم اغلقوا الابواب في وجهنا وغيروا القوانين. لان هؤلاء فوق كل القوانين، ويتلاعبون بها كيفما شاءوا.
انتفاضة الصحافة المصرية هي انتفاضة رد اعتبار لاصحاب الكلمة الحرة الذين غاب، او بالاحري، غيب صوتهم، طوال الثلاثين عاما الماضية، مما ادي الي انهيار معظم القيم، واستشراء الظلم والفساد، وفقدان مصر لدورها وتجويع شعب عظيم كان دائما في طليعة شعوب العالم في الابداع والكرامة الوطنية والشخصية.
من المؤسف ان الولايات المتحدة الامريكية ومعها الدول الغربية جميعها، لم تحرك ساكنا ازاء ما يتعرض له فرسان الكلمة في مصر من قهر وانتهاك لحقوق الانسان، وقمع للحريات، وهي الدول التي نصبت نفسها حامية للديمقراطية وحقوق الانسان. والسبب بسيط وهو انها انحازت للحاكم ضد المحكومين، لان مصر ليست بورما، لان مصر النظام مطلوب منها ان تلعب دورا في تطويع الفلسطينيين للقبول بالتنازل عن جوهر قضيتهم في مؤتمر السلام المقبل في واشنطن، ولان مصر النظام مطلوب منها ان تكون رأس حربة في الحرب الامريكية المقبلة ضد ايران وسورية وحزب الله وحماس، مثلما فعلت ضد العراق.
نتضامن بكل قوة مع زملائنا في الصحافة المصرية، ونقف في خندقهم لانهم قالوا كلمة حق في وجه سلطان ظالم.