لا زالت تحافظ صوبة البواري على مكانها في الذاكرة بأنها الوسيلة الأكثر حناناً بين جميع مصادر الدفء، وعلى هيبتها الجادة في المخيّلة وهي رافعة ذراعها للأعلى كمعلّم صارم.في الشتاء القديم كان يوم تركيب البواري عرس وطني بما تحمله الكلمة من معنى ..بعد أن يظل سؤال: أميت بدكو تركبولنا البواري؟ الأكثر إلحاحا فوق شفاهنا والأكثر اصطداماً ببرودة الجواب وفقر الحال : تا تسّقع الدنيا.. تقحمش أذاننا وتحمرّ وتكبر أنوفنا، والجواب: تا تسّقع الدنيا..
ثم يصبح السؤال أكثر قسوة عندما نشاهد أحد الجيران الميسورين بدأ شتاءه قبلنا، وعكم بين ذراعيه البواري اللامعة وشرّف آخر عنقوده بزهوّ حمل الأتش، و الأتش : عبارة عن اسطوانتين قصيرتين مفتوحتي النهاية توصل بينهما اسطوانة مفرغة تشبه تماماً حرف الأتش بالإنجليزي ومن هنا درجة تسميته بهذا الاسم دون أن يعرف آباؤنا معناه على الإطلاق..
معرفة اتجاه الريح مهمّ جدّاً في تركيب المدعو الأتش، لأنه مخرج الأدخنة وموزّعها وهو المسؤول عن حماية البوري الأخير من هجوم الهبوب أو دخول المطر.ومن البديهي أن يترك المعمرجي كوّة دائرية في أعلى جدار الغرفة مخصصة لخروج البوري منها، غالباً ما تكون مسدودة بعلبة حلاوة فارغة ومحشوة بقطعة خيش أو أكياس بلاستيك طوال أيام السنة، وهي المكان المفضّل لتعشيش السنونو و الدويريات بالتناوب، وأسفل هذه الكوّة مجرىً برتقالي أخذ لون الصدأ ويشبه صورة الشلال .. أذكر جيداً أن انتزاع علبة الحلاوة تلك في يوم تركيب البواري كان يتم بحضور جميع أفراد العائلة حتى المواليد الجدد، فهو بمثابة قصّ الشريط عند افتتاح أي مشروع تنموي أو صرح جديد في وقتنا الحاضر..
وللأمانة لقد كنّا نتحمّل الكثير من التهديد والمنّة في يوم التركيب،رغم أنها عملية تحصيل حاصل في أيام الشتاء البارد، فبعد أن تتم توصيلات البواري على خير، وتركز بطّيخة الديزل فوق الصوبة ويتم إشعالها بنجاح كان علينا ان نسمع : هه ركّبنا لكم البواري، لكن اللي بطلع من البيت بقزع رقبته لذا كنا نلازم ذات الفرشة ونراقب الصوبة طوال الموسم لأن قزع الرقبة ليس بالشيء الهيّن..وإذا ما تمرّد أحدنا وقام بجمع الجوارب في فردة جوارب رجّالي على شكل كرة وبدأنا باللعب، كنا نهدّد من جديد بعبارة توبيخية : هسّع بفكّ البواري،ثم نستكن من جديد حتى ننام . على كل حال ليس سرّاً ان أخبرتكم بأني الى الآن أتعالج عند طبيب نفسي من فوبيا البواري..
والذي كان يزيد من هذه الفوبيا ضيوفنا القلائل الذين يزورونا ليلاً ويسألون ذات الأسئلة : نفضت صوبتكوا ؟، كمّ مرّة نفضت ؟ ثم يردفون بقلق : احنا بعدهاولا مرة!.
والنفض لمن لم يعش زمن البواري، ينتج عندما يحدث انسداد ما بأحد مواسير الصوبة،له صوت فجائي مخيف ويملأ الغرفة بسواد السناج والرماد والصدأ..
أخيراً صوت الريح الذي كان يمر بالبواري الخاوية،في ذاكرتي أشهى من لحن لازم قصّة حب، فيه الخوف واستحالة الرجوع الى الوراء، فيه الدفء والطفولة النائمة..
--------------------------------------------------------------------------------