فلنعد إلى موضوع العشائرية لنتناول بعض إرهاصاته بين الماضي والحاضر ونقيم وضعنا بدلا من أن ندفن رؤوسنا في الرمال أو نخضع واقعنا لتنظيرات لا تجدي نفعا , كيف لا والعشائرية هي العقد الناظم لأفراد مجتمعنا الأردني بدوا وفلاحين وحضرا , وهي نظام منغرس في ذاتنا ومحاولة تجاهله أو تهميشه ضرب من ضروب الخيال والعبث .لقد حدثت تغيرات كثيرة مست الإنسان من حيث هو قيمة مفردة , فتأثر المجتمع كله بما طرا على الفرد من تغير وتحول . أنه ارتباط دائم بين معطيات علم النفس والاجتماع والسياسة
زمان كانت العشيرة وحدة مترابطة من قمة هرمها إلى أدنى نقطة في القاعدة , كان الأفراد متساوين في حقوقهم والتبعات الملقاة على كاهل كل واحد منهم . أما الزعامة والمشيخة فهي تعكس صورة صادقة لسمات العشيرة وبنيانها الداخلي , وغالبا ما كانت الزعامة مغرما على حامليها أكثر من كونها مغنما وترفا , كانت الحياة صعبة والحاجة ماسة إلى أفراد يحتوون المجتمع ويقيلون عثراته , ولعلنا نعرف أسماء زعماء كثيرين غادروا هذه الدنيا مثقلين بالديون بعد أن أتلفوا أملاكهم خلال سنوات عمرهم استجابة لمتطلبات الحياة في ذلك العصر من كرم وشهامة وإغاثة للملهوف .
لم تكن المشيخة ميزة إلا بمقدار ما تتمكن من أداء وظيفتها في خدمة أفراد العشيرة وحمايتهم , ولم يكن ثمة تعال من طرف على طرف آخر , فالجميع في بنيان العشيرة الواحد أبناء عمومة وأنداد متساوون , وقد سمعت حادثة جرت لأحد شيوخ العشائر الأردنية في أربعينيات القرن الماضي , حيث كان هذا الشيخ الزعيم جالسا مع مجموعة من الرجال الغرباء عندما دخل عليه بعض أفراد قبيلته يطالب كل منهم بحاجات خاصة له بأسلوب قوي لا يخلو من الحدة والخشونة , عندها أبدى أحد الجالسين استغرابه من الطريقة التي يعامل بها هؤلاء الناس زعيمهم على الرغم من انه زعيم معروف وعلم من أعلام الأردن , فما كان من الشيخ إلا أن أجابه بالحرف الواحد " أنا شيخ على رجال , ما انا شيخ على عيال " .
تلك صورة نقية من صور العشائرية , التي نعود فنكرر ونقول أننا لا نهدف هنا إلى إجراء المقارنات ولا ندعي أن ما كان في أيام الغزو والنهب والسلب هو المثال الذي يعجبنا , بل نحن نحاول هنا التركيز على السمات الايجابية في ما كان في أعرافنا , وكيف تكاد هذه الايجابيات أن تضمحل اليوم فلا يبقى بعدها إلا الخَبَثُ والسلبية .
هذه الصورة العشائرية النقية اصطدمت ولا شك بالمتغيرات السياسية والمفاهيم الطارئة على شكل الزعامة وامتيازاتها .
فقد حصلت مرحلة انتقالية ظهر فيها مفهوم الدولة الجامعة , ودخلت عوامل جديدة على الخط منها الانتماء للدولة ومنها العلم ومنها الثقافة , وتغير شكل النشاط الاقتصادي ليتحول معظم أبناء العشائر إلى الوظيفة المرتبطة بالحكومة والتي تتطلب ميزات جديدة ومتطلبات خاصة للحصول عليها والارتقاء في سلمها الإداري .
لقد حصل تطور مهم في دور الزعامة ونوعية الخدمات المطلوب منها أن تؤديها .
ظهرت نخب جديدة في المجتمع , نخب متعلمة ذات نفوذ في أجهزة الدولة , فباتت محط رحال أفراد المجتمع ووسيلة تلبية حاجاتهم ورغباتهم . وبدا دور الزعامات التقليدية يتقلص وان لم ينحسر تماما حتى يومنا هذا , وبات المتنفذون في أجهزة الدولة هم الزعماء الحقيقيون بغض النظر عن أنسابهم أو انتماءاتهم العشائرية .
أصبحت الحاجة مرتبطة بالواسطة , والواسطة لا يقدر عليها إلا هؤلاء المتنفذون في الدولة بناء على مركزهم فيها , أو من استطاع أن يحافظ على مكانته من الزعامات التقليدية السابقة , أو أعضاء المجالس التشريعية من نواب وأعيان الذين أصبح دورهم الأهم هو تقديم الخدمات الفردية بدلا من الاضطلاع بدورهم التشريعي والرقابي في مجالسهم المنتخبة .
بدت الخدمات اقرب ما تكون إلى صفقات متبادلة , مسئول أو نائب يقدم للمواطن خدمة معينة كالتوسط له حتى يحصل على وظيفة ما أو يؤمن لأبنه مقعدا في احد الجامعات أو يسهل له الحصول على قرض من بنك أو معونة من احد الصناديق المختصة , على أن يحتفظ هذا المواطن بالجميل ليرده فيما بعد بأكثر من طريقة .
ما تقدم جعل من العشائرية قشة في مهب الريح , فبدلا من أن يتماسك بنيانها وتكون لبنة أساسية في دولة حديثة تحكمها القانون والمؤسسات , وبدلا من أن تتطور نواحيها الايجابية المتوارثة لتكون رابطة تجمع أبناءها برباط محكم من الشعور بالولاء للدولة أولا وقبل كل شيء .. بدلا من ذلك كله أصبحت العشائرية في كثير من صورها عبئا على كاهل الدولة واختفت بعدها الزعامات المجتمعية القادرة على الوصل والربط ضمن إطار متين من العدالة الاجتماعية تقره الدولة بنفسها وتفرض هيبته .
دخلت الواسطة والمحسوبية بديلا عن ذلك كله , وضاعت بعض من سمات العدالة الاجتماعية وعملت النخب على استغلال العشائرية استغلالا بشعا يهدف في النهاية إلى ترسيخ مصالح هذه النخب ولو على حساب العدالة والقوانين .
للحديث خاتمة في الجزء الثالث والاخير
samhm111@hotmail.com