الدول تتحرّك وفق مصالحها الاستراتيجية؛ هذه بدهية سياسية. لكن قبل ذلك، ثمة مبحث آخر أكثر أهمية، وهو كيف تعرّف الدول مصالحها وتؤطّرها وتحدّد أولوياتها، وهو ما قد يتغيّر في الدول الديمقراطية ما بين حزب وآخر، في تقرير الأولويات أو المفاضلة بينها.
منذ جاء حزب العدالة والتنمية إلى تركيا، قام بإعادة تعريف المصالح السياسية التركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، وتمت الاستعانة بمهندس الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو (صاحب كتاب العمق الاستراتيجي).
وقام أردوغان باستدارات استراتيجية مهمة، بدأت بالانفتاح على إيران وسورية، ثم المواجهة السياسية والرمزية مع إسرائيل في أعقاب حرب غزة، والاعتداء على السفينة التركية، وما تزال العلاقة بين الطرفين متوترة إلى اليوم.
بالرغم من الغضب الغربي والانتقادات التي وجّهت لأردوغان، فإنّه حافظ على تواصله مع الإيرانيين والسوريين، وصدامه مع إسرائيل، وأثبت قدرة تركيا على قول كلمة: لا، للغرب، حتى في حرب العراق العام 2003 عندما رفض البرلمان التركي أن تكون أراضي بلاده معبراً لاحتلال العراق.
الموقف التركي راهن على الشعوب العربية وثوراتها الديمقراطية. وعندما تردّد أردوغان في اتخاذ موقف حاسم مع الثورة السورية، لوجود أعداد هائلة من الأتراك هناك ومصالح معقّدة، انتقده الشارع العربي، لكنه عاد واتخذ موقفاً واضحاً مع الثورة السورية، ضد المجازر الدموية والإبادة الجماعية التي يرتكبها النظام السوري. وربما هذا ما جعلنا نقرأ ونسمع تحليلات سياسية "مدهشة!" عن مؤامرة تركية، وأجندة سريّة مع الولايات المتحدة لتقسيم جديد للمنطقة (سايكس بيكو2)، بالتواطؤ مع إسرائيل!
ينسى أصحاب هذه التحليلات أنّ تركيا حاولت مراراً وتكراراً، وبالأساليب كافة، التواصل مع النظام السوري وإقناعه بأنّ حل الأزمة سياسي. وتوافق الأتراك مع السوريين على وصفة محدّدة، حينما زار داوود أوغلو دمشق، ثم اكتشفوا أنّ النظام السوري لم يكن يمارس سوى "لعبة شراء الوقت"، وأنّ رهانه منذ بداية الأزمة إلى اليوم هو على الحل الأمني والعسكري، وأخيراً على "الإبادة"!
تبدو مشكلة الأتراك مع العالم العربي اليوم مركّبة، ليس الانزعاج والغضب من دورهم مرتبطين بإيران وسورية (على خلفية دعم الثورة السورية)، بل إن هذا الانزعاج والغضب موجود لدى الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، إذ هي الأخرى لا تشعر بالارتياح للدور التركي الإقليمي الجديد، وتحاول تجاهله وتهميشه، نتيجة لصراعات تاريخية، وخوفاً من أهمية الحضور الناعم للقوة التركية، بوصفها حالة ديمقراطية إسلامية متقدمة، ربما يمتد تأثيرها إلى المجتمعات العربية.
"تركيا أردوغان" هي حليف كبير للعرب، قادرة على التأثير في موازين القوى الإقليمية وتشكيل حالة إسلامية دولية، سياسياً واقتصادياً، وإعادة هيكلة شروط التسوية السلمية؛ فهي فرصة تاريخية للخروج من حالة الفراغ الاستراتيجي المرعبة في النظام الإقليمي العربي، لكنّنا –كالعادة- نتقن فن إضاعة الفرص السانحة، بل ومحاربتها!
ربما ما لا يعرفه كثيرون أنّ الحرب السريّة على تركيا ومحاولة تهميشها لا تتم فقط في تل أبيب، بل في عواصم عربية، إضافة اليوم إلى إيران وحكومة المالكي وسورية (على خلفية طائفية)، وكأنّنا نشعر بالقلق من وجود قوة يمكن أن تشكّل رافعة للحالة السياسية العربية، وصديقاً أكثر قرباً ومصداقية من الغرب والشرق على السواء!
m.aburumman@alghad.jo
الغد