شكرتِ الله على نعمة المطر والثلج، وتفاءلت بموسم مطري يرطب قليلا من حياتها الجافة والقاسية.
نسيت للحظات معاناة أطفالها والتفافهم حول مدفأة الكاز التي آن لوقودها الانتهاء، وحاولت جاهدة أن لا تفكر بربطة الخبز التي قاربت على النفاد.
وبقلب هادئ وروح مطمئنة، آمنت أن لن يصيبها وأطفالها إلا المكتوب، ورمت حملها، بعد أن أخذت نفسا طويلا، معتمدة في حل ضائقتها على الأيام والزمن، فهما كفيلان بها وبأطفالها.
أدركت السيدة الأرملة منذ فقرها الأول أن عبارات مثل "مد لحافك على قد رجليك"، و"القناعة كنز لا يفنى"، و"اللي ما يقنع ما يشبع".. أقوال وضعها الميسورون ليسكتوا الفقراء على فقرهم وليصبروا على صبرهم.
وتذكرت، وهي جالسة حائرة في حالها وبردها وعوزها وبابها الصدئ الذي لم يدقه أحد، مثلا شعبيا ينطبق على وضعها الكئيب، بأن "الغني ما أكثر أصحابه والفقير ما حدا بدق بابه".
وعادت من جديد تحدق بأطفالها الخمسة الذين تركهم الوالد المريض ورحل، وآثرت هي عدم الزواج حتى تتمكن من تربيتهم وتنشئتهم. وظلت تسأل نفسها عشرات الأسئلة: من أين لي أن أفي باحتياجاتهم والأسعار كل يوم في ارتفاع، والزمن قلاب، والحياة مشاغل تشغل القريب قبل البعيد..؟!
الوالد رحل وترك لها هموما وحملا ثقيلا، وقليلا من الدين، وأورثها فقرا بوجه بشع لا يمكن إخفاؤه، وحلمها الكبير أن تتحصل على قوت يومها.
حطت همها الكبير جانبا، رجعت إلى واقعها الصغير؛ بيتها المتواضع على حافة الطريق، والثلج يحيطه من كل زاوية، تتفكر كيف لها أن تسير حتى الشارع الرئيسي لتحصل على بعض الزاد لتسكت به جوع أطفالها. وتملكها شعور بالخجل من جارتها التي تقرضها قليلا من المال لتمشية الحال لحين ميسرة.
السيدة ستحيا مع فقرها وستدفن معه. وسيرث أطفالها، الذي سيصبحون يوما رجالا ونساء، عوزا وحاجة؛ سيكبرون ويكبر شيء في دواخلهم، من حزن وأسى، وغضب، وقهر، ولن يؤمنوا بعد اليوم بالأمثال الشعبية التي طالما رددتها الوالدة على مسامعهم.
وسيدرك الأطفال في لحظة ما أن من حقهم أن يعيشوا بكرامة، وأن لا يبقى أكبر همومهم لقمة العيش، فالإنسان طاقة وقوة وعزم، والفقراء لديهم منها الكثير، وطرق التعبير عنها وإخراجها سلبا أو إيجابا مرهونة بمن حولهم وليس بهم.
قد تبدو أصوات الفقراء والمعوزين اليوم خافتة، وقد يظن المرء أن فقرهم كسرهم، إلى درجة لم يعودوا يقوون معها على الفعل والقول. لكن كل من يظن بهم ذلك مخطئ، خصوصا إذا ما اجتمعت الحاجة مع الظلم، وغاب الشعور بالعدالة، وتبخرت الفرص وتساويها.
وقبل أن يخرج صوتهم في لحظة يكونون فيها كرهوا كل شيء وبغضوا الجميع، وظنوا أن كل الأغنياء فاسدون، وكل من سكنوا القصور لصوص، فإن على من أهملهم من المسؤولين أن يصحوا، ليصلحوا من أحوالهم.
لنحمِ الجميع أغنياء وفقراء، وإلا سيعلو صوتهم يوما، مطالبا بقوت وخبز وكرامة وعدالة، عزت عليهم في ماضي الأيام.
jumana.ghunaimat@alghad.jo
الغد