مات ابن اخي عبد الإله المبدع .. وكثيرون لم يفهموه
أ. د . ثريا ملحس
29-02-2012 07:28 PM
عمون -عيناي باكيتان وتبكيان بغصّة في القلب على إنسان فنّان مبدع من مواليد 1949 م، إنسان عاش حياة معقّدة ملأى بالمآسي والرفض والقلق والبؤس هكذا أرادها، وهي تخصّه وحده، رافضاً جميع التقاليد حوله، مكبّا على ريشته يرسم حالة البؤس والشقاء فيه وفي الآخرين المبدعين، ريشته التي آثرت الرسم التجريدي من ون تأثره بأحد، أمّا ألوانه في لوحاته فقاتمة حزينة، وخيوطها مثل خيوط العنكبوت كأنّها سجون المعذّبين على الأرض. إختار هذا التعبير الصامت، وهو فن الرسم لأنه عالميّ بلا لغة أو كلام . فأزداد إكبابه على الرسم حتّى بلغت لوحاته ألفاً، ما عدا اللوحات التي وزّعها على بعض أفراد العائلة والأصدقاء بسخاء . فالفنّ التجريديّ هو عربي في الجينات . هو ما خلقه الله لنا . فالله هو الفنان الأبدع. يراه في الفنّ التجريديّ الذي أختاره ليكون صلة بواسطته بالكون كله .
وكان الفنان المبدع هذا يصبّ هاجسه وقلقه وشقاءه بريشته على لوحات . وفي أوائل الستينيّات لم تتركه الريشة للتعبير الصامت وهو يدرس الهندسة المعماريّة في الجامعة الأمريكية ببيروت . وهو أوّل من أدخل الفن التجريديّ إلى عمان بعد تخرجه مهندساً معماريّاً . كثرون هم الذين لم يفهموه وفي ظنّي لم يكن يعرف ما كانت ترسمه ريشته . وكان هاجسه وقلقه الدائم هو البحث عن الجديد والاختراع ، لم يكن إعلاميا أي إعلانياً ! ولم يأبه لعرض أعماله الفنية بل اكتفى بانعزال كلّيّ، ووحدة ، مستمرا بالرسم الفنيّ حتى أصبح لديه ألف لوحة ، اعتبرها من عطايا ونعمه التي لا تحصى . فالله هو الأبداع خلق الكائنات جميعاً وهو الذي حرّك ريشته وإبداعه . وأراد أن يعيش الفصول الأربعة كما هي بلا وسائل ، وعاش وحيدا، منعزلاً ، متصوفا، راضيا بخليقة الله ، متكيّفا رافضا التدفئة في البرد والصقيع، ومكتفيا بقليل من الطعام ، ليس حوله سوى صديق واحد يزوره وقد هجر الأطباء والدواء مستسلما لمشيئة الله وبدأ الداء يفتك برئتيه حتى انهار، فحمله صديقه الوحيد قسرا عنه إلى المستشفى دخل في نصف غيبوبة . ولم يدر به أحد من عائلته، راضيا بمشيئة الله مستسلماً . وكان قد أبعد كلّ عائلته لأنه أراد أن يكون وحيدا . ومنذ بضعة أيّام حين علم بعض أعمامه زاروه في المستشفى وكان في رمقه الأخير ، ولم أعرف شيئاً حين جاءني أحد إخوتي ليقول لي : " مات ودفنّاه" ! فقلت باكية : " من مات ومن دفنتم" ! ؟ قال لي : عبد الإله ، ابن أخي سعيد عبد الفتاح ملحس (المساعيد) . دفنّاه قرب أبيه! وحين علمت بموته سحبني الزمن إلى الوراء ومرّ أمامي فلمه الأسود حين عاش مترفاً .
منذ سنين اتصلت به وكنّا قريبين بعيدين، ولم يكن يردّ على أحد ، وحين علم بي تكلّم معي وهو متحمّس جدّاً بما يفعل في مرسمه . بعدها لم أعرف شيئا سوى انعزاله الكليّ ووحدته التي آثرها منقطعاً كليّاً . وبدأت مرحلة الاكتئاب الشديد حتى وقاته، تاركا وراءه ما يزيد على ألف لوحة ! ذكرتني حالته بفّناني القرن الثامن عشر والتاسع عشر حتّى الثلث الأوّل من القرن العشرين. ذكّرني بفان غوغ الذي عاش بائسا وحيدا ، فقيرا لم يجد أي شيء ليقدمه هدّية لمن أحبّ فقطع أذنه ولفّها ووضعها في صندوق ! عاش يرسم بريشته المبدعة يرفضه النقاد الذين لم يفهموا لوحاته، فلم يبع منها واحدة . كذلك بول سيزان الذي رفض النقاد رسمه أيضا فلم يبع لوحة واحدة في حياته ! فقرر أن يغلق باب منزله ، وقد اشترى ببّغاء تتكلم ! وعلّمها أن تقول له " صباح الخير يا بول سيزان" أنت أبو الفنّ الحديث"! ولم يقتنع النقّاد بمحاولتهما في الرسم . وفي أيامنا تباع كلّ لوحة منهما بملايين الدولارات ! فسبحان الله الذي خلّدهما وانطث ريشتهما ! هو المانح العظيم والفنّان الأبدع . وسبحان الله الذي خلق وأمات . وجعل للإنسان طبائع شتى حلّت فيه جميع طبائع الكائنات . فالحيوان وغيره من الكائنات لها طبيعة واحدة أو غريزة واحدة هي الدفاع عن نفسها من أجل البقاء . أمّا الإنسان فهو خير وشرّ ، وهو صادق وكاذب . وهو مستقيم ومراوغ وهو مظلوم وظالم . وهو من نور ونار. وهو سلام حرب وحرب . وهو إنسانيّ وشيطانيّ . وهو عظيم وحقير وهو جميع المتناقضات ! وفوق كلّ ذلك فهو شرير وفاسد ومفسد!.
مات ابن أخي عبد الإله المبدع ، إذ كنّا نأتلف في آرائنا وربّما نختلف قليلاً ، أنا أتحدث عن إبداعه ولا أتحدّث عن حياته وخصوصيّاته التي أدّت إلى إفساد حياته، لأنّه وحده المسؤول عنها! لعلّني أختصر جدّا ما أبدعه واخترعه، وما دعا إليه :
(1)خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وترك له عقلاً ليتدبّر به . كذلك خلقه ليبدع، ليخترع، فكان عبد الإله قلقاً دائما، فاخترع المغلّف متعدد الاستعمال، وهو بالانجليزية (multilop) سجّل في عمان اختراعا، نال به وساما مذ ّهبا ، لأوّل مرة يعطى للتفوّق باسم الملك حسين ابن طلال .
وقد نشر عبد الإله فكرته هذه في العالم الأوروبيّ فحصل على الوسام المهب العالمي التابع للأمم المتحدة ، كما حصل على وسام وكأس وقد أعتبر اختراعه أهم إنجاز في المانيا ، وكذلك في بلجيكا . وأوصى بنصف ريعه الماديّ لأطفال العالم المحرومين البؤساء .
(2)أما لوحاته الألف فساهم في ريعها لأطفال العالم المحرومين المحتاجين من دون تمييز وكتب منشورا بالانكليزيّة عن مشروعه الذي سمّاه كاساً (CASA) فاستجاب لندائه 48 دولة أوروبية و116 فناناً تشكيلياً يساهمون في معرض عالمي يضم اللوحات جميعها، يرصدون ريعها للأطفال البائسين في العالم .
أمّا منشوره فبدأه بقوله : " أشكر الله على عطاياه ونعمه . وهو الذي وهبنا هذا الفن الذي هو حقا لغة الله العالمية، لنشر السلام في العالم وتوحيد البشر تحت رايته " . انتهى
ـ ألم يدع محمد الرسول إلى ذلك ؟