«باب الحارة»: ذواتنا المحطمّة في المرايا المهشمّة
هشام غانم
06-10-2007 03:00 AM
الفضيلة الناصعة
يمكن الزعم (بقليل من المجازفة) أنّ الفيلسوف اليوناني أفلاطون، لو قامَ الآن بيننا، و شاهدَ مسلسل «باب الحارة»، إذاً لشعر بسعادة غامرة. و مصدر سعادته، ربما، هو أنّ جمهوريته الفاضلة قد تحققت، أخيراً، في «حارة الضبع»! غير أنّ هذا القناع الفاضل، الذي تلبسه الحارة، لا يلبث أنْ يسقط و يتهاوى إذا ما رأت إليه عينٌ ذات بصر ٍ حديد.خارج الزمن
فالحارة تلك، التي تدور في مدارها أحداث المسلسل الموسوم بوسم غريب، هو «باب الحارة»، أشبه بسجن، و سكّانها أشبه بالمساجين. و آية السجين، أنّ الزمن يمرّ عليه و لا يمرّ هو على الزمن، على نقيض الأحرار و الطلقاء. فالحارة إيّاها، تعيش خارج الزمان؛ ذاك أنّنا لا نكاد نعثر على أيّ مظهر حداثيّ في أزقتها و حوانيتها و بيوتها، و شخصياتها «خام»، لا تتطوّر أو تتغير؛ فهي إما في خانة الشرّ المطلق أو الخير الناصع. و هذا ضد الطبيعة، و ضد منطق النفس الإنسانية التي تتصارع فيها نوازع الخير و الشرّ؛ فالشاب الخَيّر، في «حارة الضبع»، يستفيق صباحاً و يقبّل يديّ والديه، و يذهب إلى عمله بسكون و طمأنينة، فلئن أمسى، أوى إلى البيت، بيته، خاشعاً متصدّعاً، لا يبغي سوى مرضاة الله و رضا الوالدين. و أمّا «الأشرار»، فلا هَمّ لهم سوى كيْد المكائد، و حياكة الدسائس، و التربّص بأهل الحارة الهانئة و السعيدة.
الباب و كراهية الغريب
و السعادة و الهناء هذان، يحرسهما «باب الحارة»، (الباب الخشبي الثقيل، و ليس اسم المسلسل، بديهة). و الأغلب على الظنّ أنّ لفظة «الباب» لم تأتِ جزافاً و عفوَ الخاطر؛ فباب الحارة هو كناية عن الحفاظ على «القيم الجميلة» و «الطهر» و «العفة»، و هو، إلى ذلك، رمز مكثّف عن الغلْق و الإيصاد في وجه «الغرباء». و هؤلاء الأخيرون لا يريدون للحارة و أهلها سوى الموت و الهلاك و بثّ بذور الفرقة و الفتنة بينهم. فما إنْ تحدث عملية سرقة أو سطوّ على الحارة حتى يكون أول سؤال يُطرح هو: «هل السارق من داخل الحارة أم من خارجها»؟ و لعلّ هذا السؤال، ينهض حُجّةً و شاهداً على وجاهة زعمنا في أنّ الحارة تكره «الغرباء». و الحقّ أنّ كراهية الغريب، في ثقافتنا، تستوي مستوى البديهة التي لا يتطرق إليها الوهن، و لا يتسلل إليها الشكّ؛ فالثقافة هذه، لا تعرّف نفسها إلا من ذاتها و بذاتها و في ذاتها: أي من الداخل؛ فتستغني عن الخارج بطهرها و نقائها الداخلييْن؛ ذاك أنّ أهل الخارج «غرباء»، و ما يَصْدر عن «الغريب» المتربّص ليس سوى هراء و نباح و نعيق و استشراق، معاً و جميعاً. بهذا المعنى، هي ثقافة من طينة شمولية تقيم على حافتيّ الوجود و العدم، و لا تعترف بنسبية الأمور، و لا تُفارق المُطْلق إلا لتلاقيه شوقاً و حباً.
الدولة الممتنعة
و على رغم الكراهية الشديدة التي يكنّها أهل الحارة لـ«الغرباء»؛ فإنّ هؤلاء الأخيرين يكفّون عن أنْ يكونوا غرباء في حالة واحدة فقط. و الحالة هذه، هي ابتياع السلاح منهم! هكذا يغدو السلاح هو الرابطة الوحيدة التي تحببّنا و تقرّبنا إلى الغريب المتغطرس المتربص بنا الدوائر. و لا ريب أنّ هذا المسلك لا يزال يشتغل بمواظبة إلى زمننا هذا؛ بل الأكثر من ذلك أننا نقاتل «العدو» من طريق أسلحة نبتاعها منه! و الحال أنّ الإشارة العميقة الدلالة في ابتياع السلاح، هو الغياب أو الإنعدام المزمن لمفهوم «الدولة»؛ ذاك أن (العقيد) أبو شهاب هو مَنْ يعقد صفقات السلاح، و يقوم بإيصاله إلى المقاومين في فلسطين.
الدين و «السياسية»
و لمّا كانت الدولة ممتنعة، فقد صيرَ إلى وجهاء الحارة (أو «الأعضاوات» في رطانة عاميّة) حلّ منازعات و خلافات أهل الحارة. و الوجهاء هؤلاء، يقومُ منهم شيخُ المسجد مقامَ الإمام، و الإمام هنا، على معنييْن؛ فهو يؤمهم في المسجد، و يؤمهم (أي يتقدّمهم) في تشكيل «الجاهات»، و حلّ المنازعات «السياسية». و إذ يدلي أحد الوجهاء بدلوه في إحدى المسائل، يلتفت إلى الشيخ سائلاً و طالباً العون: «مو هيك شيخي؟»؛ فيردّ الشيخ مُثنياً و مضمّناً قوله بنص دينيّ. و هذا السلوك كان و لا زال يسري مسراه إلى شرائح واسعة من النخب و الأنظمة العربية؛ فلا نأتي على قرار أو رأي إلا بعد التأكد من وجود مسوّغ شرعيّ له. و على ما خبرنا و علمنا، فإنّ أقصر الطرق إلى الهلاك هي تلك التي تلابسُ السياسةُ فيها الدينَ؛ رغم أنّ السياسة تدابير و إجراءات لحلّ منازعات و خلافات أرضية، على حين أنّ الدّين أشبه بمنظومة متعالية على الإنسان و «ضعفه» المشهور. و هو (الإنسان) ليس ضعيفاً فقط (النساء/28)، بل «يؤوس كفور»، (هود/9)، و هو «ظلوم كفّار»، (إبراهيم/34)، و هو «عجول»، (الإسراء/11)، و «هَلوع»، (المعارج/19)، و فوق ذلك فهو «كادح»، (الإنشقاق)، و «في كَبَد»، (البلد/4).
المرأة و الرجولة و الآخر
و قصارى القول أنّ المسلسل المذكور يقترح استئناف تقاليد الامس الغابر، و تعزيزها، و النفخ في رميمها، و العَوْد على بدئها. و هي تقاليد لم تكنْ موجودة أصلاً كما صوّرها المسلسل. و فوق ذلك فهي تقاليد بريّة، و غير متصالحة مع الحضارة و الثقافة، و مهجوسة بالقوة و الغلبة، و تحتقر الضعف الإنسانيّ، و تسكنها الدكتاتورية، و تُتوجّها «الرجولة». و هذه الأخيرة – في المسلسل - أنزلت المرأة منزلة الحضيض، و المرأة، بدورها، لا تمانع في ذلك، بل تستطيب الإذلال و الإهانة، و تستلذ بهما، فإذا وبّخها زوجها؛ ردّت له «التحية» بأحسن منها: «تقبرني ابن عمي»، و أحياناً: «تقبرني ابن عمي و تمشي على قبري»، و هذه أعلى درجات الإنسحاق. و ربما كان أخطر ما يضمره المسلسل في ثناياه و تضاعيفه هو إقصاء الآخر و نبذه و نفيه، و إغلاق الباب في وجه «الغرباء». و لعلّ حجم المتابعة المهول، الذي حظيَ به المسلسل، مردّه إلى أنّ «باب الحارة» يخاطب وعياً بدائياً و جريحاً و مهزوماً. و الوعيّ هذا، يبحث عن «انتصار على الآخر و طرده» حتى و لو على شاشات التلفزيون. و هذا كلّه و غيره و مثله – على الأرجح - يُكنّي عن ذواتٍ محطمّة ترى إلى مرايا مهشّمة. و المرايا هذه، اسمها «باب الحارة».
hishamm126@hotmail.com