لماذا تراجعت القضية والأقصى بالذهن العربي؟!
محمد حسن التل
26-02-2012 02:33 AM
لم تكن الصورة التي نُشرت على صدر صفحة الدستور الأولى أمس، لنساء فلسطينيات يتصدّين بأجسادهن لهمجية الجنود الإسرائيليين؛ دفاعاً عن حرمة المسجد الأقصى الجمعة الماضية بعد صلاة الظهر، مجرد صورة عادية التقطها أحد مصوري وكالات الأنباء، فقد شكلت هذه الصورة رسالة مدوية لكل صاحب قلب، لا يزال ينبض بالإسلام والعروبة.
ففي خضم انشغال النظام العربي في صراعاته القطرية، ولهاث شعوب الأمة -رغم الثروات الهائلة التي وهبها الله إياها- وراء لقمة العيش، والصراعات المذهبية والطائفية التي تنخر جسد الأمة، لم يعد للأقصى إلا شباب زغب، حملوا أرواحهم على أكفهم؛ دفاعاً عن شرف أمتهم المهدور في باحات الأقصى، ونساء مؤمنات ثكلات، قابضات على جمر عفة العقيدة وشرف القومية، في وقت غاب فيه الشرف عن كل الساحات في هذا الزمن الرديء.
ففي الوقت الذي كانت تدكّ به حمص مثوى الوليد، بدبابات وصواريخ (نظام المقاومة) في دمشق، والقتل الغادر سيد الموقف في بغداد، والفوضى تعمُّ معظم شوارع قاهرة المعز، كانت بساطير الهمجية اليهودية تدنس باحات الأقصى، الذي لا يزال يقف شاهداً على هزيمة أمته؛ الهزيمة التي جاءت على أنقاض واقع مريض تعاني منه الأمة، في منظومة شاملة من التخلف والتحلل والفساد، إلى درجة جعلتها غير قادرة على استيعاب ما هي عليه من عجز، وبالتالي أصبحت عاجزة تماماً عن استشراف المستقبل، الذي يضمن لها العودة إلى ما كانت عليه قبل هزيمتها.
إن واقع الحال وصل بالقدس والقضية الفلسطينية إلى ما وصل إليه نتيجة التراكمات الكثيرة، أولها التآمر الدولي عبر العقود الطويلة، وضعف متزايد أرخى بظلاله على كل جوانب مسيرة الأمة، حتى باتت غير قادرة على إدراك خطورة وضعها، والدرك الأسفل الذي وصلت إليه.
وللأسف أن الأمة على المستوى الشعبي، طالها ما طال الجانب الرسمي من تغييب لقضية الأقصى في كل شيء، حتى عن الأذهان، ففي الوقت الذي كانت تندفع فيه الجماهير العربية والإسلامية إلى الشوارع، بعد كل محاولة تدنيس للأقصى بحراك شعبي هائل، لم نعد نرى ذلك الحراك على مستوى الأمة إلا ما ندر، وعلى خجل، وقد جاء هذا الأمر نتيجة العمل الدؤوب لدوائر سياسية عربية وغير عربية، عملت على ذلك لعقود طويلة، فالمواطن في العالم العربي والإسلامي نتيجة الضغوط الهائلة التي تثقل نفسه وكاهله، لم تعد قضية الأقصى عنده ذات أولوية ولو إلى حين.
ما حدث يوم الجمعة الماضي من اقتحام لباحات الأقصى من قبل الجيش الإسرائيلي، هو امتداد لسلسلة الجرائم الصهيونية إزاء هذا الصرح الإسلامي، الذي يأتي موقعه في قلب عقيدة الإسلام، وهو سلوك ممتد لما سبقه من جرائم بشعة، ارتكبتها إسرائيل بحق كل المقدسات على أرض فلسطين، أمام أعين العالم المتحضر، الذي يرى بكل اعتداءات إسرائيل في فلسطين على المقدسات، والحجر والشجر والإنسان، دفاعا عن النفس!!
لقد تعرضت قضية الأقصى وفلسطين لكثير من المؤامرات، وكان أخطرها حين تم نزع الصفة الإسلامية عنها، وأصبحت قضية عربية، وبالتالي باتت أي مشاركة إسلامية في الدفاع عن فلسطين نوعا من التطوع، الذي يكون في أحيان كثيرة غير مرغوب فيه.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل نزعت أيضاً عنها الصفة العربية، وأصبحت قضية فلسطينية، وأي تدخل عربي يدرج تحت بند التدخل بالشؤون الداخلية للغير، وللأسف تحول العرب في كثير من الأحيان إلى وسطاء بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصغرت الدائرة أكثر من ذلك، والأصح أنها مُسخت، حتى أصبحت قضية فلسطين قضية مصالحة بين فتح وحماس.
ومع كل هذا التصغير والمسخ، كانت القضية تدفع ثمناً باهظاً من حضورها، ومن حقوق أصحابها الشرعيين الثابتين على أرضهم، والمرابطين في باحات الأقصى بعيداً عن أي صفة رسمية أو دعم رسمي، لا يحركهم إلا شعورهم بالمسؤولية الدينية والوطنية، وقدموا قوافل من الشهداء والأسرى بعيداً عن زعامات الفنادق، والطائرات الخاصة، والتصريحات الرنانة التي لا تغني عن واقع مهزوم ومأزوم.
إضافة إلى ذلك فقط غُيّبت قضية فلسطين والأقصى عن أذهان الأجيال العربية والإسلامية الصاعدة، وذلك بالتجاوز عن كل منعطفات هذه القضية المقدسة، من خلال مسخها في المناهج الدراسية والإعلام على مختلف مستوياته وأنواعه، فلم نعد نرى أو نسمع عن أي ذكر مثلاً لحادثة إحراق الأقصى، أو وعد بلفور، أو ذكرى النكبة أو النكسة، كما سماها النظام العربي حتى يتحاشى لفظ الهزيمة، وكأن الحروف تستطيع أن تغير من الحقيقة شيئاً.
لقد كانت هذه التواريخ راسخة في أذهان الأجيال، من خلال تكريسها في المناهج الدراسية، والتركيز عليها في الإعلام على مختلف أنواعه، ففي ذكرى هذه الحوادث كنا نرى الهدير الشعبي العربي يملأ الأفق، مطالبا بالثأر والتحرير، وتخليص فلسطين وما بها من مقدسات من نير الأسر والاحتلال، لقد كانت القضية ومراحلها التاريخية جزءاً من تفكير الإنسان العربي والمسلم، ولكن المؤامرة كانت أكبر من الشارع العربي، الذي أثقلته همومه الذاتية، فنفذت إليه الخطط المسمومة، حتى وصلت القضية في ذهنه إلى ما وصلت إليه من تغييب وضعف في الحضور.
ستظل فلسطين ومقدساتها تعاني من ظلم العالم "المتحضر"، وهمجية القدم الصهيونية، وضعف ذوي القربى، وسيظل المرابطون على أرضها وحدهم، يواجهون بصدورهم العارية رصاص الحقد، وجنون التطرف اليهودي، إلى أن تسري روح الحياة في جسد هذه الأمة من جديد، لتعصف فيها معاني العزة والمنعة، ساعتها سيكون الفرج قريبا.
الدستور