يكفيك ان تشارك في جلسة لمجموعة من نخبنا تشغل نفسها بالشأن العام، وتنتبه جيدا لما يقال فيها، لتجد بأن كل شيء صار مسموحا الحديث فيه سوى الحقيقة. قول الحق يتم تجنبه بجهد واضح. ويجري الحديث إلى حيث تبدأ الشعارات.
وتشعر بالإحباط. لا مناص لك من ذلك. فهذه الجلسات تنعقد، عموما، في مكان ما يقع على حافة ما صار يسمى «بالشارع الثائر» حيث تصطخب الحركة، فالداخلون إليك يأتون، منه، مباشرة، ولا يخرجون إلا إليه، حين يخرجون. وكلا الداخلين والخارجين، معظمهم، في أحسن الأحوال، يبحثون عن السلامة الشخصية. فقول الحق يضعهم مباشرة في مواجهة هذا الذي يظنون أن عليهم تجنب التصادم معه.
نحن نمر بمرحلة صعبة تفرض علينا تحديات كبيرة. صحيح أننا خرجنا، في الماضي، سالمين من مراحل أشد صعوبة، لكننا قبلنا التحدي كصف واحد، يومها، وانتصرنا وخرج الوطن، مما أريد له، سالما قويا.
لكننا، اليوم، كما يبدو، غير متفقين. فالعدو ليس عدوا خارجيا فحسب، بل هو، أيضا، جزء منا نما، تحت تأثير التغذية المصطنعة، بسرعة غير طبيعية، كما تفعل الخلايا السرطانية، فصار يمزق بأنسجة جسمنا السياسي على مهل ودون رقيب. غضبنا، عندما تمكنا من التعبير عن غضبنا، فتشكلت قناعات راسخة في أن بعض الأعضاء يجب أن تبتر ليتمكن جسمنا السياسي من الشفاء. ثمة قرار بذلك، يثق الجميع أنه بصدد التنفيذ.
سيكون فائضا عن الحاجة، هنا، إعادة التأكيد أن استمرار هذا الاختلاف لا طائل تحته، ولا يقدم في مصالح الوطن شيئا. بل يصب، في نهاية التحليل، في صالح العدو بشقيه الداخلي والخارجي.
قرأت، يوم الثلاثاء الفائت، مقابلة طويلة مع دولة رئيس الوزراء أجرتها معه صحيفة الغد، تحدث فيها الرئيس عن كافة جوانب حياتنا السياسية، لم يترك صغيرة ولا كبيرة مما يهمنا منها. كانت برنامج عمل كامل تناول كل جوانب الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والزمن اللازم لتحقيقها، وطرق تنفيذها، أحيانا. قالها بلغة واثقة مليئة بالتصميم على تنفيذ كامل البرنامج. فهل سنعطي صاحب القرار هنا وقته لينفذ برنامجه؟ واضح هنا إتاحة كامل الفرصة لصاحب المشروع لإكمال مشروعه يتصادم مع غايات الذين من مصلحتهم إيقاع الارتباك في معسكره. ولذلك ما يزال يوجه النقد إليه. لاحظ أحدهم، هنا، أن بعض الذين ينتقدون الرئيس لم يقرأوا المقابلة المنشورة لسبب، بعضه، أنها ربما كانت طويلة!!
لا أوافق من يقول أن المشكلة الحقيقية هي عدم القدرة المتأصلة بهؤلاء سواء على القراءة أو الاستماع؛ أو أن هاتين الصفتين هما، على وجه التحديد، الكامنتان وراء بقاء حركات الشارع حركات عشوائية غير منظمة، قابلة لاستغلالها وتفكيك أي هدف جاد فيها وتفتيت أفكارها، وإبقائها على الرصيف تراوح مكانها كما لو فقدت الاتجاه.
على أننا نمر بمرحلة صعبة فعلا نحتاج فيها للنخبة القائدة القادرة على الوقوف بشجاعة عند ما تتخذه من قرارات والمواجهة الصادقة مع الحقيقة.
الرأي