يحكى ان احدى قنوات التلفزيون اليابانية كانت تنقل في بث مباشر لقطات حية لليوم الأخير السنة الدراسية من أمام إحدى المدارس اليابانية , وترصد خروج الطلبة من بوابة المدرسة بعد ان قرع جرس اللحظات الأخيرة من ذلك العام الدراسي, كانت الكاميرا التلفزيونية تنتقل بين وجوه المئات من الطلبة المغادرين فيما مذيعة القناة تستطلع آراءهم ومشاعرهم وهم يودعون عناء عام دراسي كامل.
تحدث الطلبة عن خططهم خلال الإجازة, فمنهم من أعد لرحلة سياحية أو فترة إسترخاء ,ومنهم من خطط لعمل صيفي طبقاً للُمورِثات الجينية اليابانية التي تبغض الإجازات الطويلة, وتكافح لتخفيضها.. في خضم هذه المقابلات رصدت الكاميرا بضعة طلاب يقومون بتمزيق الكتب المدرسية في انفعالية تعبر عن سعادتهم الغامرة بوداع العام الدراسي, مزقوا المراجع ونثروا الأوراق والكراريس, وعند سؤال المذيعة لبعضهم عن سبب ذلك عبروا ببساطة عن ابتهاجهم بهذه اللحظات الخاصة من عمر الطالب.
لم تنتهي الحكاية, فقد ثارت عاصفة بين صفوف اليابانيين صبيحة اليوم التالي وتعالت أصوات الهيئات والمؤسسات التربوية معتبرة ان ما جرى ما هو الا كارثة نزلت على راس الأمة اليابانية, وذهب أخصائيون وأكاديميون لأبعد من ذلك حين اعتبروا ذلك , بداية النهاية لليابان ولحضارتها مطالبين المسؤولين بتحمل مسؤولياتهم.
لم يتوارى وزير التربية والتعليم الياباني عن الأنظار كما يفعل وزرائنا عندما تلم بالأُمة كوارث حقيقية هي من صنع أيديهم, طلب اجتماعاً طواريء للحكومة والبرلمان لُيعلن استقالته أمام ممثلي الأُمة اليابانية, مؤكداً "لا استحق ان اكون وزيراً في بلد يمزق فيه الطلبة كتبهم فرحين بمغادرة مدارسهم إلى الإجازة.. في بلد ينفر فيه ابناءه من المدارس"..
انتهت الحكاية اليابانية..
وعدنا ادراجنا الى البلد الذي مازال طلبته يمزقزن كتبهم ويمسحون ما تعلموه من ادمغتهم وينسفون كل ذكرياتهم المدرسية عند آخر جرس مدرسي يقرع في اليوم الأخير من العام الدراسي..
الى بلدنا الحبيب الذي ذكرَتنا نتائجُ التوجيهي في بعض مدارسه , بالنتيجة الأزلية لمدرسة الأخلاق الحميدة في مسرحية مدرسة المشاغبين..(لم ينجح احد)!, وكأن فيروساً أو وباءً قد حل في كامل الجسم الطلابي فلم يفلت احد من العدوى.. ولكن ما بال الهيئة التعليمية في تلك المدارس وهل أُصيبت بدورها بالعدوى..!؟
الى البلد الذي مازال الضرب المُبرح , الذي يمتزج بمشاعر كراهية وإحتقان وعنف, هو المشهد الملازم لمدارسه الحكومية, حتى أصبحت قصة الطالب الذي فقد بصره أو الآخر الذي أصيب بالشلل من قصص الواقع التربوي الأردني بإمتياز.
والى البلد الذي تُعلن فيه حالة الطواريء في المنازل والأحياء طوال فترة إمتحانات التوجيهي ..وهو الإمتحان الذي قض مضاجع الملايين منذ نصف قرن ومازالت الحكومات تصر عليه, أداةً وحيدة واحدة لتقييم الطالب, ورسم ملامح مستقبله.
إلى البلد الذي يُخطأ فيه الكمبيوتر فيُصدر نتائجَ توجيهي مغايرة لتلك الحقيقية, وقبل إعلان تعديلها يكون قد انتحر من انتحر, وانكسر من انكسر, وفيه ايضاً وفي احسن الأحوال تؤجل النتائج لتبقى آلاف الأسر تتقلى على جمر الإنتظار والقلق, واليه ايضاً, حيث مخرجات التعليم لاتتناسب وأنظمة التعليم العالي, ومناهجه تتغير كيفما اتفق, وبعض استاذة الإنجليزية فيه لا تتحث الإنجليزية أصلاً. أما العلوم الإجتماعية فحدِث..!!
وأخيرا الى البلد الذي تتحكم في بعض مدارسه الخاصة إداراتٌ لا تؤمن بما يسمونه "الرأي الآخر", فتشطح في رفع الرسوم الدراسية وقتما شاءت وكأنها في بلد آخر.. لا أزمات إقتصادية فيه ولا أربابَ أسر تُفرَمُ كل يوم ليؤمنون بعض ما يحفظ كرامتهم امام عيون صغارهم..
لا أدعو هنا, أحداً لإستقالته (لاقدر الله) على خطى ذلك الياباني الذي استكثر على نفسه المنصب جراء "الكارثة الكبرى",وأعرف ان الدكتور عيد الدحيات الذي احترم , جاء إلى تَرِكَةٍ لا يعلمُ ثقلها إلى الله. ولكن أرى أن حكوماتنا تاريخياً مثل تلك المدارس المنكوبة في الأغوار.."لم ينجح أحد" ولم يستقل احد يوماً..
(الغد)