في الذكرى التاسعة لوفاة المرحوم محمود الشريف
صادفت يوم قبل أمس الجمعة الذكرى التاسعة لرحيل الأستاذ الجليل محمود الشريف الذي يعد من أعمدة الصحافة الأردنية والعربية، فقد كان علماً عربياً وقومياً أسهم في تدعيم الصحافة الأردنية والعربية وتميز في كل المواقع التي شغلها. كان جريئا يتحلى بالقيم النبيلة والأخلاق الحميدة. ترك بصمات كبيرة في مجال الصحافة حيث كان صاحب دور قيادي على المستوى الوطني والقومي.
نشأ محمود الشريف في بيئة منتمية لتراثها العربي والإسلامي، فتلقى تعليمه الأولي في المساجد والكتاتيب ،فحفظ القرآن كاملاً ، ودرب نفسه على اللغة ولمعت موهبته في مجال اللغة والخطابة منذ سنوات مبكرة من طفولته، فكان لذلك يختار لإلقاء الخطب المدرسية، مما يدل على أن ملامح الاهتمام باللغة كانت حاضرة في شخصيته منذ بواكير تكوينه الثقافي، واستمر بهذا الشكل الى ان تخرج من جامعة القاهرة ،وحصل على درجة البكالوريوس في اللغة الانجليزية وآدابها، وقد اتيح له في مرحلة لاحقة من حياته عندما كان يعمل في الاذاعة ان يذهب في بعثة يتلقى فيها تدريبا إعلاميا على أيدِ كبار الصحفيين والاعلاميين.
احترف محمود الشريف مهنة الصحافة صدفة وعن غير سابق تخطيط، فقد كان في فترة من الفترات لاجئاً سياسياً في العراق بسبب ظروف المنطقة، وأثناء لجوئه كان يكتب مقالات سياسية إلى جريدتي اليقظة والحوادث العراقيتين دون أن يشهر اسمه الحقيقي ويكتفي بالتوقيع "لاجئ عربي، كاتب عربي"،وذات مرة أعجبت جريدة اليقظة بما كتبه، فنشرت مقالة له بدلاً عن افتتاحيتها، وكذلك فعلت جريدة الحوادث العراقية. وكانوا معجبين بالأسلوب الذي يكتب به وطريقة العرض في تلك الفترة.
أما دخوله في عالم السياسة فقد جاء بعد أن استقال من العمل الحكومي من دائرة الإعلام التي لم يبق فيها فترة طويلة. إذ ترك العمل الحكومي وقد عرف من بين أصدقاء محمود الشريف، الأستاذ كامل الشريف والأستاذ جمعة حماد، فبدءوا سوياً بفكرة إنشاء جريدة المنار في القدس عام 1960 ، حيث بدأت هذه المطبوعة التي كانت صغيرة الحجم وكان لها دوي وضجيج كبيرين من الناحية السياسية في تلك الفترة، وكان أيضاً في جريدة المنار ولاحقاً في جريدة الدستور و كان يكتب من ثلاثة إلى أربعة مقالات في اليوم وبمواضيع مختلفة. لقد كان الشريف يضيق ذرعاً بالعمل الرسمي لا يحب أن يكون موظفاً لذلك لم يطل المقام به في الدوائر الرسمية رغم قصر المدة التي قضاها فيها.
تميز محمود الشريف بأنه كان المفكر السياسي للدولة الأردنية بكل معنى الكلمة هو والشهيد وصفي التل، وصلاح أبو زيد. فقد كانوا يفكرون في الشأن العام للدولة الذي كان هاجسهم، وعرف عنهم أنهم كانوا يعالجون قضاياها ومشاكلها عبر وسائل الإعلام والأخبار وأي طريقة أخرى تتاح لهم. كان محمود الشريف مديرا لدائرة توجيه الإعلام التي هي نواة وزارة الإعلام التي أصبح وزيراً لها فيما بعد، والمفارقة التي تحسب له أنه فكر بها قبل أربعين عاماً من تأسيسها. ثم ذهب للصحافة التي أورثها لأبنائه، فانتقل إلى الصحافة من خلال صحيفة المنار في ذلك الوقت، وبدأ مع جمعة حماد وشقيقه كامل الشريف بإنشاء مجلة الأفق الجديد وهي المجلة الثقافية الأولى في الأردن وهي أهم من جريدة المنار التي أسست لحركة ثقافية جديدة في ذلك الوقت، وكان المرحوم الشاعر الكبير أمين شنار سكرتيراً للتحرير وكان مدير التحرير محمود الشريف، وكان يكتب فيها كل الكتاب أصحاب الأسماء الكبيرة في الأردن والوطن العربي.
دخل محمود الشريف مهنة الصحافة صدفة الا انه كان مهيأ ومؤهلا لهذا الدور من طبيعته وكل إنسان ميسر لما خلق له. فقد كان مهيأ لأنه يحمل قضية الأمة بكل مشاكلها ومعطياتها ورؤيتها المستقبلية وأفكارها وتراثها، كان يحملها بأفكاره التي عبر عنها بكتبه وبكل ما كتبه في الصحافة التي أتيحت له ليصبح صاحب جريدة المنار والدستور والأفق الكبير، وكتب كثيراً في كل ما يخطر على بال الكاتب والقارئ في الجانب الفكري والإنساني والتصوف والزهد والشعر إلى جانب إتقانه اللغة الانجليزية اتقاناً مدهشاً بنفس قدر إتقانه للغة العربية. فقد كان مجدداً في اللغة العربية فكثير من المصطلحات التي يستخدمها الصحفيون الآن من ابتكار محمود الشريف، تعكس قدرته على الإبداع بأسلوب أدبي رائع للغة الصحفية اليومية.
لعب محمود الشريف دوراً كبيراً وأساسياً في تأسيس الإذاعة الأردنية، إذ عمل في تلك الفترة مديراً للأخبار بقسم الأخبار الذي كان قسماً مهماً سياسياً حيث كان مطبخ السياسة الأردنية كلها، كان مسؤولاً عما يسمى ركن الجزائر في الأخبار الذي كان يعنى بالترويج لأحداث الثورة الجزائرية وبث رسائل التضامن معها وهذا من أدوار الأردن الكبيرة في تلك الفترة وكانت الإذاعة الأردنية تنهض بها بشكل كبير.
وكان اتحاد الإذاعات العربية مجمعاً مهماً لتنسيق الأمور الفنية وتنسيق الأمور السياسية ولكن دوره بالدرجة الأولى هو تقني وفني، وأعطيت هذه الفرصة له ليتقن الجانب الفني. وكان له دور مهم لتنسيق الرسائل العربية ولا شك أن هذا الدور خدمه في فترات لاحقة في العلاقات التي تشكلت وهذا يسجل له لأنه كان ذا ميزة مهمة خاصة منحته هذا الدور.
عمل محمود الشريف مديراً للإعلام، وكان الأعلام قدرا له، حيث أصبح مؤسساً لما يلي:
- دائرة الأخبار في الإذاعة الأردنية، ففي 1/3/1959 بدأ تأسيس الإذاعة حيث كان المرحوم وصفي التل وصلاح أبو زيد،وهم أقطاب السياسة والاعلام في الدولة الاردنية في تلك الفترة.
- ذهب إلى قطر وأسس الإعلام القطري وكان أعلامياً متميزاً أسس الإذاعة والإعلام والتلفزيون والصحافة والثقافة والفنون حيث أصبح مؤسساً في الأردن والخليج وكان ذلك فعلاً لأن ما نشهده في قطر والأردن من إعلام متميز هو ثمرة لجهوده ونتائج هؤلاء الناس الكبار. وكانت الأجندة الوحيدة هي خدمة الوطن دون مكسب وشهرة ولا خسارة ولا ربح. أن بصمته كبيرة جداً ومصداقيته كبيرة جداً حيث كان كبار الصحفيين يأتون له من كل العالم ويسألونه عما يجري في العالم كله.
كان شديد الاهتمام بالحضور الدائم في المنتديات العالمية وقد سجل أقوال الكثير من الصحفيين المعروفين في جميع أرجاء الوطن العربي الذين بدورهم سجلوا كلمات رائعة بحق محمود الشريف.
شغل محمود الشريف منصب وزير الإعلام في حكومتين هما حكومة الأستاذ طاهر المصري وحكومة المرحوم زيد بن شاكر وكان خلال فترة كونه وزيراً للأعلام منحازاً للصحافة وكان ينظر لنفسه على أنه صحفي وأن المنصب الحكومي هو منصب طارئ وهو بالأصل صحفي ويخدم الإعلام الأردني من خلال موقعه كوزير في وزارة الإعلام. أما أهم إنجازاته خلال عمله في وزارة الإعلام فهو قانون المطبوعات والنشر لسنة 1993 حيث أتم صياغته ودافع رحمه الله عن هذا القانون في مجلس النواب ودخل في سجالات عديدة في مجلس النواب مع بعض النواب الذين كان لهم أراء مخالفة.
كان شديد الإيمان بحرية الصحافة ولم يحدث في عهده إطلاقاً أن عوقب صحفي واحد حتى بالغرامات، لذلك كان قانون المطبوعات مرجعية مهمة، انعكس على مساحة الحرية، فهو عملياً سيترك الوزارة ويعود ليصبح صحفياً وهو بذلك يدافع عن حقه أيضاً انطلاقا من إيمانه بحرية الصحافة إيماناً مطلقاً فلا سقف لتلك الحرية، حيث أن سقفها أعلى من كل السقوف.
عندما نروي قصة محمود الشريف نحكي معه قصة الصحافة الأردنية فهو من القلة النادرة من بين رواد العمل الصحافي الأردني الذي حمل مسؤولية الإخاء الأردني على مدى عقود من العمل والتفاني، تغمد الله فقيد الأمة العربية والإسلامية بواسع رحمته ومغفرته واسكنه فسيح جنانه، انه سميع مجيب.