معان عاصمة «الجهاديين» الأردنيين .. بين مآثر «ابو سياف» والخوف من نفوذ «الأخوان» .. عيون «التكفيريين» شاخصة على مدارسها
رنا الصباغ
05-10-2007 03:00 AM
عمون - معان - رنا صباغ - في أزقّة معان وشوارعها الفقيرة يتجول عشرات من الشبان الملتحين تقول التقارير انهم يحملون الفكر التكفيري، يرتدون أثواباً بيضاً تحت معاطف طويلة خضر أو سود أو في زي «أفغاني»، في ظل رقابة أمنية مدروسة وفرّت هوامش من الانكشاف المتبادل.
يتشاركون في هذا الزي مع السلفيين وغيرهم من أتباع التيار الإسلامي الأوسع الذي يحدّد سقف المطالب السياسية من دون التفكير في إقامة دولة إسلامية أو الوصول الى السلطة، لكنهم يختلفون معهم بالنهج العقائدي إذ «يكفّرون الحاكمية».ومع أن هذه الفئة قليلة نسبةً إلى عدد سكان المدينة المحافظين والمتداخلين عشائريا، إلا أنها تحاول فرض نمط حياتها- بالشغب أحياناً والصوت العالي أحياناً أخرى- على سائر المعانيين الذين يقدر عددهم بـ 40 ألف نسمة.
لهذه الفئة حضور مختلف في معان الصحراوية ذات الطبيعة القاسية يتميز عن حضوره في مناطق انتشار أخرى له في المملكة كالسلط وبلدة كفر أبيل (إربد) إذ تساهم عوامل محلية وتجانس السكان في رفد أتباع هذه الجماعات بالمؤيدين. أما الشعور بعدم المساواة، والبطالة وجيوب الفقر فتلعب دوراً في إيجاد بيئة تمد التكفيريين بالكثير من المناصرين.
خالد البزايعة، أستاذ الثقافة الإسلامية في جامعة الحسين بن طلال (معان) والباحث في جرائم الحرب والإرهاب، يقول إن هذه الجماعات «تكفّر الأنظمة الحاكمة وما يتبع لها من مدرسين وموظفين وأئمة مساجد ووزراء ونواب لأنهم ينظرون إليهم على أنهم أعوان نظام لا يحكم بما أنزل الله». ويضيف: «في بعض الحالات يحلّلون استعمال السلاح في وجه الدولة» كما حدث في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2002 عندما حاولت قوات الأمن اعتقال من يُعتقد أنه أحد زعماء التكفيريين محمد الشلبي (أبو سياف) وغيره من المطلوبين في قضايا أمنية. قتل في حينها ستة أشخاص من بينهم شرطيان وأغلقت المدينة لمدة أسبوع في كبرى العمليات العسكرية التي حصلت في المملكة منذ أحداث أيلول العام 1970.
ويقول مسؤولون على صلة بالملف التكفيري «المقلق» إن نشاط هذه الجماعات يتركز في ثلاث بؤر «توتر» رئيسة، تشكل أجواؤها المحرومة حاضنة اجتماعية، اقتصادية وسياسية لمن تأثر بالسلفية الجهادية والتقليدية وبفكر «القاعدة» وبمئات العائدين من «الجهاد» في العراق وأفغانستان.
البؤر تمتد من مدينة معان الفقيرة شبه المغلقة (220 كيلو متراً جنوب عمان) والتي يميل سكانها إلى القسوة في التعاطي مع القضايا الأمنية. إذ غالباً ما يتحول فيها المطلوب الى بطل شعبي في حال المطاردة او الاعتقال. ثم السلط (33 كيلو متراً غرب العاصمة) وهي ذات نسيج ديموغرافي وديني مختلط تأثرت بالمد القومي والنضال الفلسطيني في السبعينات من القرن الماضي، وصولاً إلى قرية كفر أبيل الشمالية ومخيم إربد للاجئين الفلسطينيين وسط ثاني اكبر المدن من حيث عدد السكان بعد عمان. وثمة انتشار «تكفيري» لكن محدود ومراقب داخل محافظة الزرقاء (25 كيلومتراً شرق عمان). أعداد المنظمين من «التكفيريين» لا تتجاوز الـ 200 شخص في المملكة بحسب التقديرات الرسمية، بمن فيهم 50 شاباً من معان، وهو الرقم الأكبر على مستوى المملكة.
لكن حزبيين في معان وسكان محليين ونشطاء «جبهة العمل الإسلامي»، الذراع السياسية لحركة الإخوان المسلمين - التي اعتمدت عليها الدولة لستة عقود في محاربة المد الشيوعي والقومي قبل أن تنقلب أخيراً الى المعارضة - يقدّرون عدد التكفيريين الملتزمين علناً في معان بحدود 350 رجلاً ما عدا الذين يصنفون في خانة «الأطر الصديقة».
ويستغل التكفيريون بصورة عامة حالة التدّين المتجذرة في هذه المجتمعات المحافظة، وفشل الحكومات في إدارة الكثير من الملفات الخدماتية والتنموية والاقتصادية، وأجواء خيبة ويأس وعزلة عمقتّها تحديات الفقر والبطالة والفساد وسياسات أميركا وإسرائيل المناوئة للعرب والمسلمين, لتعزيز دعوتهم وضم مناصرين الى جماعاتهم. وبحسب مسؤولين وناشطين حزبيين مطلعين على تمدد التكفيريين في المملكة، فإن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي اخترقت هذه الجماعات تبقي مساحة انكشاف مشتركة يستفيد منها الجانبان.
لكن غض الطرف عنهم ليس مطلقاً, لأنه اذا حصل فسيكون مكلفاً للمملكة، لا سيما في معان، التي تبقى بؤرة التوتر الأكثر قابلية للاشتعال بسبب خصوصيتها وكونها مسرح تكرار أحداث شغب منذ أزمة عام 1989 التي شكّلت نقطة انطلاق لمسار العودة الى إلديموقراطية.
اليوم يطالب نشطاء في المدينة بإطلاق سراح أبو سيّاف، زعيم التكفيريين في معان، الذي يقبع خلف القضبان منذ سنتين. علماً ان ابو سياف استفاد مع ثمانية من رفاقه من عفو ملكي خاص أخيراً خفضت بموجبه أحكام الإعدام بحقهم إلى السجن 15 عاماً مع الأشغال الشاقة. علماً أن الدولة برأت 72 متهماً في هذه القضية لعدم كفاية الأدلة.
ولا يقلّل أصحاب القرار الأردني من مخاطر تنامي الفكر التكفيري في مجتمع محافظ وتقليدي مثل المجتمع المعاني. لكن الخطر الأول في رأيهم هو ذلك القادم من التيار الإسلامي الرسمي الذي أشتد مع صعود حليفه الفلسطيني «حماس» بعد انتخابات العام 2005 والانقلاب العسكري في قطاع غزه هذا الصيف.
وفي الذاكرة ذلك التصريح الذي أطلقه رئيس كتلة «جبهة العمل الإسلامي» التي تهيمن على 17 من أصل 110 مقاعد في مجلس النواب، إذ قال بعد اكتساح «حماس» الانتخابات ان الحركة الاسلامية في الأردن باتت جاهزة لتسلم الحكم. ويرى مسؤولون اردنيون، ان التيار الاسلامي الذي اكتفى حتى الآن بالجانب الدعوي والاجتماعي، يسعى للوصول الى السلطة.
ويقول مسؤول أردني لـ»الحياة» إن «الإخوان والجبهة هم اليوم بلا شك أكبر تحدٍ أمام الدولة الأردنية، يليهم التكفيريون والقاعدة».
فبحسب المسؤول نفسه، تحاول رموز متشددة في التيار ومرتبطة بالخارج الاستقواء على الحكومة ونقل التجربة الفلسطينية أو اللبنانية الى الساحة الأردنية. ويصر أن حركة «حماس» اخترقت هرم وقواعد التيار الاخواني الأردني من دون علم قياداته وأخذت تجنّد شبابه. من هنا جاءت سلسلة الاعتقالات في صفوفهم بعد التغيّر في موقف السلطة حيال الإخوان المسلمين والجبهة ضمن إستراتيجية أمنية لرفع الغطاء عنهم وكبح نفوذهم السياسي والدعوي والاجتماعي استناداً الى القانون. وبموازاة ذلك، تعكف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية على محاربة الخطر الخارجي الأول القادم من تنظيم «القاعدة» الأم وتفرعاته الإقليمية ومنها في العراق الذي تحّول إلى مولد للإرهاب بعد الفشل الأميركي العسكري والسياسي.
ويقول مسؤول آخر لـ «الحياة» إن التكفيريين يختلفون عن «القاعدة» العالمية وحركة الاخوان، الذين هم أيضاً جزء من حركة عالمية. فمع أن «للقاعدة تنظيمات عنقودية متعددة لكنّها ترتكز إلى عقيدة مركزية وترتبط بمرجعية يمثّلها أسامة بن لادن». وفي المقابل يرى المسؤول أن مرجعية الإخوان والجبهة أضحت في قم (الإيرانية) وغزّة (الفلسطينية). أما «التكفيريون في الأردن فلا توجد لهم مرجعية خارجية تديرهم أو تمولّهم.
لذلك وبعكس تنظيم «القاعدة» وحركة الإخوان والجبهة فإن التكفيريين لا هيكلية تنظيمية واضحة لهم، ولا منهجية في العمل، ولا منطق وإلا لكانت هذه العناصر نجحت في إيذاء الدولة».
تأثر تكفيريو الأردن إلى حد كبير بفكر الشيخ عصام البرقاوي السجين، الملقب بأبي محمد المقدسي، وهو صاحب موقع الكتروني باسمه ومؤلف عشرات الكتب والرسائل التي تكفّر الأنظمة الإسلامية وتنتقد نهج الإخوان المسلمين في العمل السياسي والعام. والبرقاوي، أردني من أصول فلسطينية كان يقيم في الكويت واستقر في المملكة بعد حرب الخليج الأولى عام 1991. ويعتبر البرقاوي منظّر الأردني المتطرف محمد فضل نزال الخلايلة، الملقب ب «أبي مصعب الزرقاوي»، وزعيم تنظيم «القاعدة» في العراق الذي قتل قبل أكثر من عام في عملية سرية.
مسؤول آخر يقول إن التعامل مع «التكفيريين يتداخل فيه العنصر الأمني بالتنموي والفكري والسياسي. وتشكل هذه العناصر بمجملها أجندة الدولة وأجهزتها المختلفة». ويضيف: «هناك متابعات أمنية لنشاطات التكفيريين، واستدعاءات متكررة واعتقالات... سواء في معان أو في غيرها من المدن». لكن تأتي في الصدارة محاولات تفريغ محتواهم الفكري وتعريتهم أمام المجتمعات خارج البعد الأمني المحلي. وهنا يأتي دور الجميع بدءاً بالمحافظ، والمدرس، وموظف الحكومة، ومدير الشرطة، ومدير شعبة الاستخبارات، وصولا إلى المجتمع المحلي ووجهائه، وأهالي التكفيريين الذين يغطّون عليهم».
وبغياب أبو سياف عن معان، أصبح د. علي العناني الذي خدم سابقاً في مستشفى معان الحكومي، المرجع الأكثر تأثيراً للسلفيين الجهاديين في المدينة مع أنه لم يعد يقيم فيها. ويرى البزايعة أن عدداً متزايداً من أهالي معان كشفوا التكفيريين على حقيقتهم وفضحوا «فكرهم الضال» وبالتالي لم يعودوا يتمتعون بالشعبية التي كانوا عليها قبل أربع سنوات.
زعماء هذه المجموعات معروفون للجميع ويتمايزون بدرجات التشدد. يتحركون في العلن تحت أعين المجتمع والإدارة المدنية والأمنية. بعضهم أصحاب سوابق أو مطلوبون للعدالة. وأحياناً يشاطرهم في مواقفهم الغاضبة من الدولة تجار المخدرات. وبين الحين والآخر يقود التكفيريون مسيرات مناهضة للدولة, ويشتبكون مع أئمة المساجد, ويشاركون في تحطيم الأكشاك الأمنية. وهناك شكاوى من أن عدداً منهم يختطف عقول اليافعين من رواد المساجد ويستدرجهم إلى بطن الصحراء ليعلمهم كيفية إطلاق الأعيرة النارية.
عيون التكفيريين شاخصة على مدارس معان الحكومية ألـ 31 على ما يؤكد كثير من المراقبين من ابناء المدينة. ويقول نشطاء أن بعض الطلاب أصبحوا يعتنقون الفكر التكفيري كتقليد اجتماعي وليس كفكر تلقوه أو تعلموه.
ويقول مسؤولون إن وفداً منهم زار مديرية التربية في معان قبل اشهر ليعبر عن غضبه لأن طلاب المدارس شاركوا في حملة التصويت لاختيار البتراء إحدى عجائب الدنيا السبع. فهي برأيهم كانت عاصمة لدولة كافرة (قبل الإسلام), وطالبوا أيضا بمنع زيارة مشرفين تربويين لمدارس الإناث وبمنع الرحلات المدرسية المختلطة.
الحكومة تراقب عدداً من المدرسيّن - معظمهم يدرسون الفقه والشريعة - في مدارس معان بعد أن حاولوا التحكم بطابور إذاعة الصباح في المدارس وفي نوعية الرسائل التوجيهية ومنها الملكية التي تريد وزارة التربية إيصالها لتعميق الانتماء والمعرفة.
وتخطط وزارة التربية لتحويل ثمانية مدرسين من اصل ألف مدرس عامل في معان إلى إداريين لتخفيف خطر تأثيرهم على المدارس وعلى فكر تلاميذ يتخذون من أساتذتهم نماذج لهم. التيار الإسلامي وخصوصاً تيار الأخوان في معان ينتقد تصرفات التكفيريين ويخشى أتباع هذا التيار من أن تساهم سياسة الإقصاء التي تمارس عليهم في تنامي المد التكفيري، لكن السلطة تعتقد أن الإسلاميين التقليديين يستعملون التكفيريين كـ «فزاعة» لدفع الحكومات إلى إعادتهم الى حضنها.
ولدى المرجعيات السياسية والأمنية والحكومية خطط قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل لمحاربة المد التكفيري، وهي مهمة صعبة بسبب الأوضاع الاقتصادية الضاغطة وحالة عدم الاستقرار السياسي في الشرق الأوسط.
وتؤكد مصادر رسمية أن بعد الانتخابات التشريعية في 20 تشرين الأول (أكتوبر) ستجري الحكومة سلسلة تغييرات لتعزيز هيبة الدولة، بما فيها إجراء تغيّرات ومناقلات ستشمل محافظين وأمنيين وإداريين محليين ممن «يظهرون مرونة زائدة تجاه التكفيريين على حساب أجندة الدولة وأولوياتها. وبعدها سيتم الحديث مع وجهاء المجتمعات المحلية لوضع حد لفوضى التكفيريين، لا سيما في معان، بسبب الخصوصية السياسية الامنية لهذه المدينة. ويبقى خيار استخدام القوة مطروحاً لكن بعد استنفاد الوسائل كافة».
وبالتزامن مع ذلك سيتم تنفيذ عدد من المشاريع التنموية السريعة اضافة الى إطلاق خطط يشرف عليها القصر لإقامة مناطق اقتصادية تنموية تزاوج بين الحداثة وتقاليد المجتمعات المحلية على أمل وقف الهجرة المستمرة من المحافظات الأقل حظاً وتحقيق نمو اقتصادي قادر على مكافحة ثالوث الفقر والبطالة والتكفير(الحياة).