رغم وجود قراءات رسمية على طاولة المسؤولين تزعم انتهاء الحراك الشعبي السياسي، محمّلة بخلاصة أساسية "أنّ ما حدث في 2011 لن يتكرر في 2012"، إلاّ أنّه سرعان ما تكشّفت هزالة هذه النتائج بانفجار الحراك الاقتصادي- الاجتماعي، وهو الأشد خطورة وأكثر كلفة وصعوبة، مع عدم توافر القدرة والمرونة الكافية لدى الدولة للتعامل معه.
على الصعيد ذاته، لم تؤدِّ المحاكمات التي تقوم بها الدولة لشخصيات كبيرة إلى إنهاء مطالبات الشارع بإغلاق ملف الفساد، بقدر ما دفعت إلى مطالب جديدة، وإلى تأجيج صراعات جديدة مسكونة بمنطق تصفية الحسابات والاتهامات المتبادلة.
انتقلت الأجواء المشحونة إلى مجلس النواب في جلسة يوم الأربعاء الماضي، عندما تمّ التصويت على حل لجان الفساد، ثم عُدل عن الأمر فيما يتعلّق بملف خصخصة الفوسفات، بعد أن تصاعدت الأزمة الداخلية واتهام الأجهزة التنفيذية بالتدخل لتحصين "فاسدين"، وعاد سقف الإشاعات إلى الصعود مرّة أخرى لتكثر الأقاويل والتأويلات.
أحسب أنّ هنالك اتفاقاً على أنّ ما يحدث في ملف مكافحة الفساد اليوم بمثابة فوضى حقيقية، وتشعب كبير واختلاط الحابل بالنابل، ما يفتح الباب إلى مزيد من الانزلاقات والأخطاء والكوارث، والإضرار بالاستقرار الداخلي وصورة الدولة خارجياً، ومن ذلك الاستثمار الخارجي والمساعدات.
الحل يكمن، في المقابل، بتناول الملف ضمن "حزمة" واحدة من التشريعات والإجراءات والمؤسسات والسياسات، وتسليمه لشخصيات موثوقة ونزيهة، تحظى بثقة الرأي العام، وأن تتولّى هي فتحه من أبواب مختلفة: القضايا الكبرى، شبهات الفساد، الإثراء غير المشروع، وأن تمكّن هذه الجهة من الأدوات والقوانين والإمكانيات ما يؤهلها للإمساك بالملف، وأن تتولّى هي مخاطبة الرأي العام والرد على استفساراته.
أحد المفاتيح المهمة في هذه اللحظة لمواجهة نذر الفوضى والانفجار والتوتر الداخلي يتمثّل بملء الفراغ الحالي من خلال إجراءات ونقاشات مرتبطة بأجندة الإصلاح السياسي، فهو وإن كان ما يزال يواجه تحديات وخلافات، إلاّ أنّه الأكثر انسياباً وسهولة إلى الآن، ويمكن أن يأخذ دوراً أكثر ثباتاً وقوة في حال تمّت تهيئة الأجواء لمشاركة الإسلاميين والحراك الشعبي في الانتخابات، والاقتراب من موعدها المنتظر.
في الأثناء، ولتهدئة البلاد وتنفيس الاحتقانات، بصورة صحيّة، وعدم الانجرار إلى "حافة الانفجار"، مع كل أزمة من الأزمات الراهنة أو المتولّدة، فإنّ المطلوب الوصول إلى رؤية عميقة في كيفية طيّ الصفحة الماضية وفتح صفحة جديدة، لضمان عدم تكرار ما حدث في تلك المرحلة، وتحديداً في ملف الفساد الذي هزّ شرعية الدولة وهيبتها في عيون الناس.
ما يزال "شبح" السنوات الماضية وما وقع فيها من تخبط يمثّل معضلة حقيقية، ما بين رفض الشارع إغلاق تلك الصفحة من دون "كشف حساب" وما يمكن أن تثبته هذه العملية من مناخات مقلقة ومضطربة!
التطلع إلى "محاكمات سياسية" - كما دعا بعض الزملاء- مع احترام هذا الرأي، يدفعنا دائماً إلى نبش الماضي والاستسلام لما فيه من خطايا ممتدة، ومثل هذا "الخط السياسي" سيؤجّج مناخ الصراع، ولن يسكّنه، بل المطلوب أن نفكّر في المرحلة المقبلة، لنقطع الطريق على سيناريوهات التشظي والفوضى وعلى الأجندات المتطرفة، من اليمين واليسار.
ذلك يجعل أحد أبرز الأسئلة المطروحة علينا اليوم: أين يقع برّ الأمان وما هي الطريق المؤدية إليه، حتى لا نخسر رأس المال ونحن نفكّر في الربح!
m.aburumman@alghad.jo
الغد