اهو قدر الجمهورية الخامسة في فرنسا بان ينتهي معظم رؤسائها اما امام المحاكم واما في العزلة ?
فبعد الرئيس جاك شيراك الذي ما ان فقد حصانته الرئاسية حتى جرجر امام المحاكم بتهم الفساد الى ان صدر عليه حكم السجن وقد فقد قواه الصحية والعقلية الكاملة, ها هو الرئيس الحالي نيقولا ساركوزي يبدو قاب قوسين من المحاكم بتهم الفساد المالي ايضا. ذاك اننا كنا نسمع, منذ السنوات الاولى لحكمه عن صفقات الفساد هذه, لكن الحصانة والظروف السياسية حالت دون دفعها الى الواجهة. ومن تلك الصفقات المعروفة لدى الفرنسيين تمويل معمر القذافي لحملته الانتخابية, وذاك ما فسر تعقب الوحدات الفرنسية الخاصة للعقيد الهارب وتسليمه للثوار لقتله من دون محاكمة قبل ان يتكلم, ولذلك احتفلت وسائل الاعلام الفرنسية, التي عرف ساركوزي بسيطرته عليها, بمقتل القذافي كما لم تحتفل بسقوط الباستيل.
غير ان الصفعة جاءته من حيث لا يدري, وتحديدا من البوابة النسائية, فزوجته السابقة سيسيليا لم تكتف بكل ما كشفته في كتابها الانتقامي عنه, بل اضافت الى ذلك مؤخرا معلومات حول رحلات عديدة إلى الخارج في تسعينيات القرن الماضي حاملا الحقائب (كما يقول الفرنسيون) في اشارة الى جمع الاموال السياسية غير الشرعية. مما قد يودي به إلى المحاكم. كذلك فان صديقه نيكولا بازير الذي رتب زواجه من زوجته الاخيرة بات متهما بما يسمى قضية كراتشي وبإساءة استخدام الأموال العامة. والتحقيق في هذه القضايا قد يفتح سر علاقة الرئيس بذلك ويجره إلى القضاء, وفي احسن الاحوال يزعزع مصداقيته. خاصة ان هذه المصداقية لم تسلم من رذاذ فضيحة رئيس الوزراء السابق إدوارد بلادور, ووزير الثقافة السابق رينود دوينديودي المتهمين بالتورط بأكبر صفقة عمولات لصفقة مبيعات للأسلحة الفرنسية. إضافة إلى ما يتداوله الفرنسيون عن تورط الرئيس بعملية فساد متعلقة بشركة هين, وعن تورطه في قضية مؤسسة ليليان بيتا نكور. هذا عدا عن قضية الرحلات على حساب الدول المضيفة. هذه الضجة بدأت بالضجة التي اثيرت حول استضافة الرئيس التونسي بن علي وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال اليو ماري, وذاك يوم عرضت ماري على بن علي ارسال قوات شرطة فرنسية الى تونس لقمع الانتفاضة. وذاك ما لا يحصل بالطبع من دون علم الرئيس. ومن ثم تتالى كشف اوراق رحلات الاستجمام التي قام بها الرئيس ورئيس وزرائه الى مصر على حساب حسني مبارك.
صحيح ما يقوله البعض من ان جهات فرنسية سياسية تتعقب ساركوزي لكشف فضائحه, سواء جماعة الحزب الاشتراكي الذي يتقدم مرشحه فرانسوا هولاند على ساركوزي في استطلاعات الرأي, او مارين لوبان زعيمة حزب اقصى اليمين التي تستفزها سياساته العربية بشكل خاص, او زعماء يمين الوسط الذين انشقوا عنه وعلى رأسهم دومينيك دو فيللوبان الذي يحمل له اكثر من ثأر. فساركوزي قد جرجره امام المحاكم طوال سنوات بتهم اتضح في النهاية انها ملفقة, كما انه وهو الوفي لجاك شيراك لا يغفر له الاذلال الذي الحقه برئيسه, اضافة الى الخلاف المبدئي والاساسي العميق حول رؤية ما للجمهورية, خاصة لموضوع الاستقلالية الذي اسس له شارل ديغول ومسحه ساركوزي كالطباشير بالتحاقه الكامل بالاطلسي, كما مسح الديغولية القديمة والجديدة كلها. تبعية بلغت حدا يعلن معه الرئيس تعليق العمليات العسكرية في افغانستان, ليخرج وزير خارجيته, في اليوم التالي, فيعلن العودة عن ذلك بمجرد ان وقفت وزيرة الخارجية الامريكية لتقول ان ذلك ممنوع. رغم ان استطلاعات الرأي دلت على ان 84% من الفرنسيين يريدون الانسحاب.
وصحيح ايضا ان الاوضاع الداخلية, خاصة الاقتصادية المرتبطة بالازمة العالمية, لا ترحم حكم ساركوزي, بل جعلت 63% من الفرنسيين يعبرون عن استيائهم من سياساته الاقتصادية والاجتماعية. بعد ان ارتفع عدد العاطلين عن العمل إلى 4.24 مليون شخص. و بلغت نسبة البطالة 9.3% من عدد السكان. وأزمة الديون سترغمه على اقتراض 178 مليار يورو من الاسواق عام 2012م.
لكن تمكن الاعداء من الرئيس لم يكن ممكنا لو لم يكن هو متورطا وفاسدا. كما ان الازمة الاقتصادية الفرنسية ليست الا جزءا من الازمة العالمية وربما تكون ظروف فرنسا افضل من سواها من الدول الاوروبية في هذا الخصوص.
مما يعني ان العلة تكمن في الفساد وفي السياسة. الفساد الذي شكل عنوان النظام العالمي الجديد واقتصاد السوق والنيوليبرالية. مما اقترن بانهيار اخلاقي شبه عام لدى الطبقات السياسية التي تماهت مع الطبقات المالية. اما السياسي فيجعلنا ننتبه الى ملاحظة بالغة الاهمية هي لعنة العالم العربي خاصة والشرق الاوسط عامة. فجاك شيراك دفع ثمن موقفه الايجابي من العراق وفلسطين, يوم تمكنت الامبراطورية الامريكية من الانتصار والتربع على عرش العالم, وساركوزي يدفع ثمن فشل سياساته في العالم العربي وافغانستان, يوم تقف الامبراطورية مترنحة وتفشل سياساتها, وقبلهما دفع الرئيس ديغول ثمن موقفه من حرب ,1967 ليعود خلفاؤه الديغوليون ليجددوا الديغولية نفسها.
فهل هي حربنا على كل ساحات العالم, خاصة الساحة المتوسطية ?
العرب اليوم