اعترضني حذاء ملقى وسط الشارع, في طريق عودتي من محاضرة نظّمتها مؤسسة ثقافية, وكأن صاحبه اختار موضعاً لافتاً للأنظار ليدّل على أثره الباقي.
أثرٌ استحقَّ وقفة وعميق نظر, فالحذاء خُلع بتمهل, ورُكن على نحو يشبه ما تعرضه محلات الأحذية على واجهاتها, مع فارق بسيط أنه ما كان ملمّعاً بما فيه الكفاية, ولم يظهر عليه كذلك الاتساخ.
"مظهر" يُذكر بوصايا منظمي حملات الترشيح للرئاسة الأمريكية, (فقليل من عناية المرشح بحذائه لا ينفّر العمال, ولا يلفت رجال أعمال, في الوقت نفسه, ما يمنح فرصة أكبر للتصويت).
"تصويت" لم يخطر ببال صاحب الحذاء, فربما لم يذهب يوماً للاقتراع على مجلسي النوّاب أو أمانة عمّان, لعدم اقتناعه بقانون الانتخاب أو لانشغاله بقضايا أكثر جدوى وإلحاحاً.
منطق الجدوى لا يغيب عن اختياره لحذائه, وإن تركه بعد حين, فالحذاء لا يحمل دمغة ماركة مرتفعة الثمن, لكنه ليس رخيصاً, ويبدو بسيطاً في تصميمه وعملياً ومريحاً.
مواصفات تشي بنوع من الحكمة والإدارة الناجحة, إلاّ أنها لم تحُل دون التخلي عن الحذاء, فربما اكتشف صاحبه أنه أخف حملاً بالاستغناء عنه, أو أن الحكمة تقتضي الخروج على عُرف, دام طويلاً, يقول بارتداء الأحذية.
وقد ترتبط تلك الإدارة الناجحة بذائقة زوجته, ما دفعه إلى التمرد على وصاية تفرض اقتناء أصول وممتلكات تُعمر طويلاً, وقرر فجأة أن يعيش اللحظة, ولا يكترث لحسابات المستقبل المعقدة.
تعقيد لا يُفقد المسألة وجاهتها, فهناك سبب منطقي دفع صاحب الحذاء لاتخاذ موقف يكلفه المشي حافياً على مرأى من الناس.
موقفٌ يُمكن تقديره, وتقدير دوافعه كذلك, بالنظر إلى تزامنه مع أحداث بارزة تبدأ بإضراب المعلمين, وفرْط لجان التحقيق بفساد برنامج التحول الاقتصادي في البرلمان, واعتصام أبناء الريشة رفضاً لاستيلاء متنفذين على أراضيهم, ولا تنتهي بمحاولات تهويد القدس المحتلة.
وربما كان الدافع شخصيا يتعلق بانكسار عاطفي, أو كآبة مصدرها دسائس زملائه الموظفين, أو تأثراً بموت بطله المفضل في فيلم سينمائي.
حذاءٌ تركه صاحبه ومضى! لا أقل ولا أكثر.
mahmoud1st@hotmail.com
العرب اليوم