للقدس القديمة عادات. ومن عاداتها، أن تترك بصمتها في ذاكرة من مروا بها. صديقة مسيحية، أودعتني مشهداً من ذاكرتها في القدس عشيّة حزيران الشهير: ليلة شتاء عاصف، ومشيٌ وئيد على شوارع المدينة المبلطة بالصخور. وفجأة، يكفُ العصفُ، ويرتفع الصمت، فلا تسمع الصديقة سوى وقع اقدامها على بلاط القدس المبللة. فيستيقظ خوف مبلول، يذكرك بأنك وحدك .. وهنا!؟.
منها، من القدس. إعتاد الشرق والغرب، طوال ألف عام مضت، قياس المسافات بين المدن. ومن بابها. من باب العمود. يبدأ صفر الأميال لمدن الشرق: بيروت، دمشق، يافا، غزة، حلب...
باب العمود، يفتح صباح المدينة نحو الشمال. أي نحو دمشق أو طريقها. ولهذا يسميه الغربيون إلى اليوم بـباب دمشق. أما عرب الديار الفلسطينية، فيسمونه منذ نحو ألفي عام بـباب العمود. الإسرائيليون يسمونه اليوم بـباب نابلس لأنه يتجه نحوها.
الرومان هم من بنوا الباب الأصلي. ولا يعرف بدقة ماذا كانوا يسمونه رسمياً. ورغم ذلك، لم تصمد على مر السنين سوى تسمية عرب الديار لباب القدس الأشهر: باب العمود.
هدريانوس، الامبراطور الروماني الشهير، هو من بنى باب العمود، عندما أعاد بناء المدينة، مطلع القرن الثاني الميلادي، بعد أن هدمها سلفه تيطس. وسمّاها إيليا كابتوليا. وبهذا الإسم عرفها العرب المسلمون الأوائل: إيلياء.
على هذا الباب الجديد للمدينة، وضع هدريانوس عموداً من الغرانيت الأسود لا يتجاوز ارتفاعه أربعة عشر متراً. وعليه تمثال للامبراطور الباني. وعلى عمود الغرانيت تم نقش المسافة بين القدس وبين مدن الشرق الأخرى. وبعد بناء المدينة، حظر على اليهود دخولها، أو حتى مجرد النظر إليها من بعيد..(!؟).
تم تصميم شوارع المدينة ومبانيها استناداً للطراز الروماني، الذي يرتكز على فكرة توزيع المباني العامة. حيث أقيم معبد أفروديت آلهة الجمال. الذي انشئت مكانه كنيسة القيامة لاحقاً. أما عمود هدريانوس فكشفت عنه خريطة مادبا الفسيفسائية قبل أكثر من مئة عام. ولم يتم العثور عليه، تحت الباب الحالي، إلا من قبل الإسرائيليين. وهو أصغر بكثير وأقل مهابة من الباب العثماني الحالي، المنشأ قبل نحو أربعمائة عام.
للقدس عاداتها، كما يشهد واقع اقدام صديقتي على حجارة شوارع القدس القديمة قبل أربعين عاماً. ومن عاداتها أيضاً: انها تخدع غزاتها كما تخدع عاشقيها. تماماً كما فعل باب العمود بذاكرة العابرين لأكثر من ألف عام..(!!).
FAFIEH@YAHOO.COM