في الوقت الذي فشلت الحكومة في إدارة أزمة المعلمين بأقل الأضرار، بعدما دخل الإضراب أسبوعه الثالث، يدير المجتمع الأردني الأزمة بمرارة تمتد بين الغضب والأسف والكوميديا الرمادية. تبدو تلك الكوميديا بالتركيز على أصوات في المجتمع تختصر الأزمة في مجرد "أولاد في الشوارع"، بينما يغيب عن المشهد أن الفشل سياسي، وليس في المؤسسة التربوية بمختلف مستوياتها، والتي نالها النصيب الأكبر من حملة التشويه شبه الرسمية، وكأن الدولة تأكل أبناءها وتهشم مؤسساتها!
في الواجهة الأكثر إثارة؛ في البرلمان، أغلق النواب في مشهد درامي لا يخلو من الكوميديا الرمادية التي تغيب عنها أسباب البكاء والضحك معا، ملف التحقيقات في أكثر من ثلاثين لجنة تحقيق، تعد الموجة الأكثر ارتفاعا في تاريخ البرلمان الأردني في ملاحقة الفساد ونبش ملفاته. وحيث يبدو المشهد أكثر رمادية، تضيع الطريق التي أدخلت النواب في هذه الدوامة، وأدخلت المجتمع في دوار متعب، بين استهلاك الوقت في ملفات لا تنتهي وانتزاع مهام مؤسسات وسلطات أخرى من أجل إطالة عمر المجلس من جهة، وبين النوايا الصادقة في كشف عمق جذور الفساد وتمددها من جهة أخرى.
تجلت الكوميديا الرمادية في أن المجلس الذي طالما اتهم بأنه جاء بالتزوير، يتهم هو الآخر قوى داخل المجلس وخارجه بتزوير إرادته في التصويت الذي حدث على حل لجان التحقيق النيابية في الفساد. إذ يتهم نواب جهات من خارج المجلس بأن لديها رفضا لعمله وتدخلا صارخا فيه، وأن هناك ملفات ممنوع الاقتراب منها. منذ هذا اليوم، خلقت الدولة، وليست الحكومة وحدها، منطقة ساخنة جديدة في نزع الثقة تماما عن نوايا مكافحة الفساد. وإذا ما استطاعت هيئة مكافحة الفساد إحداث فرق في تلك الملفات، وتحديدا في ملفات بعينها، فإن الدولة تأكل نفسها هذه المرة.
في المحصلة، خرج المشهد البرلماني بدون تحقيق نتيجة ملموسة في عشرات من ملفات الفساد التي فتحها. وبينما أضاع المجلس أكثر من ثلاثة أشهر في التحقيق وجمع الأدلة والاستماع إلى الشهود، حُملت صيغة تحويل هذه الملفات إلى هيئة مكافحة الفساد على محمل من الرفض وسط بعض النواب وبعض القوى الاجتماعية؛ هل يعني ذلك بيئة ملائمة لاستقبال حزمة التشريعات الإصلاحية التي تعد الأهم في تاريخ البلاد؟ ما يقود إلى استنتاج ثقيل الدم وسط هذه البيئة السياسية الرخوة، ووسط مناخ عام رمادي اللون لم يعد يعرف فيه من هم الأبطال ومن هم الضحايا ومن هم الفاسدون ومن البائع ومن المشتري؛ هذا الاستنتاج سوف يبرز خلال الأسابيع القادمة، وملخصه حجم الفراق بين الحكومة والمجلس، وهل يستوي لهما التوافق على إنجاز حزمة التشريعات المنتظرة. في خلفية المشهد حالة رمادية في الصراع وتعقيد العلاقات بين النخب، تختلف عن منطق الصراعات التقليدية؛ ثمة انتقال للقوة يتم بشكل غير واضح، ورموز جديدة دخلت في التصنيع، ما يضيف المزيد من الحبر الغامق على الحالة الرمادية.
كم أزمة بمستوى أزمة إضراب المعلمين، أو أزمة بمستوى فشل أو إفشال جهود مكافحة الفساد أو إعاقة الإصلاح، تنتظر البلاد؛ تلك الأزمات التي تستهلك الجميع، وتنتهي بدون أن يعرف أحد الأسباب أو الفاعل، ولا تترك إلا المزيد من الضعف وزيادة قوة مصادر التهديد؟ هذا الرمادي الممعن في الخراب هو الذي يجعل البلاد تأكل البلاد، وتسجل الجريمة ضد مجهول.
basim.tweissi@alghad.jo
الغد