حين كانت مهنة التعليم مقدسة .. !
حسين الرواشدة
17-02-2012 03:45 AM
ما زلت اذكر اسماء الكثير من اساتذتي في المدرسة ، وأشعر انني مدين لهم دائما ، لا بما كانوا يبذلونه من جهد لتعليمنا وانما - ايضا - بما قدموه لنا من نماذج تربوية وانسانية رسخت داخلنا قيماً عزيزة.. اعتقد انها لم تغادرنا بعد.
هذا كان قبل نحو اربعين عاماً. حين كان المعلم مقدساً بما تعنيه الكلمة تماما ، كان أحدنا لا يجرؤ على رفع صوته او حتى عينيه في وجه استاذه ، رغم ان بعض المعلمين كانوا صغاراً في العمر ، وكنا نهرب من الطريق الذي يمر به المعلمون ونتطوع احياناً لخدمتهم - خاصة اولئك الضيوف الذين أتوا من خارج البلدة ولا تخلو أي مناسبة من حضورهم ، حيث يجلسون في مقدمة الصف. ويتعازمهم الناس ، ويحيطونهم بالاهتمام والاحتفاء.
لم يكن معلمونا يبخلون علينا بالنصيحة ولا بالارشاد والتعزيز ، وكان بعضهم يلوح بعصاه الطويلة أمامنا ، ويحذرنا من الخطأ ويضرب بها بعضنا احياناً ، لكن دون ان يجرح كرامتنا ، او يشعرنا بالدونية ، كان ثمة احساس بالرهبة والاحترام ، وربما الخوف احيانا ، من المعلم ، لكن العلاقة بيننا وبين معلمينا ظلت قائمة على أساس متين من الحب والاعتراف بالجميل والفضل.. والتقدير على الدوام.
تلك - بالطبع - كانت صورة مثالية ، وقد لا تخلو من الرتوش في بعض المرات ، لكنها كانت سمة جيل ، تربى على قدسية العلم والمعلم في آن معاً ، وعلى قيم احترام الصغير للكبير ، ولكنها - للأسف - تغيرت الان ، والمشكلة ليست في المعلم او في الطالب ، ولا في قضية الضرب واستخدام العصا ، ولا في تدني راتب المعلم وسوء ظروفه المعيشية ،ولا في الاضرابات وما دخل على خطوطها من تجييش ضد المعلمين ، انها اكبر من ذلك كله ، وان بدت هذه مجرد اعراض ، المشكلة في المناخات السياسية التي سممت حياتنا العامة وافسدت مجتمعنا وقلبت قيمه ومفاهيمه ،و في الوسائل التربوية التي نقلناها الى تربتنا من منابت اخرى لا تناسبها ،و في تحويل انظمتنا التعلمية والتربوية الى مختبرات للتجريب دون وعي او مراجعة ، كما ان المشكلة لا تتعلق فقط بما يحدث في مدارسنا من عنف وغياب للقيم وامتداد لثقافة الاساءة وعدم التقدير ، وانما بما يعانيه مجتمعنا كله من نزوع نحو القسوة والعنف المتبادل والاحساس بالظلم والخوف والقلق ، ورغبة في الانتقام: المجتمع ينتقم من الناس ، والناس يريدون الانتقام منه.. وهكذا.
حين كان التعليم في بلادنا بخير ، كانت مهنة المعلم مقدسة ومطلوبة ، وكانت قيمته محفوظة ومعتبرة من الجميع ، وحين تحول التعليم الى ضريبة الزامية بموجب القانون ، وانحدرت مناهجه وفلسفته ، وتراجعت قيم التربية التي وضعناها في شعاراتنا قبل التعليم ، وتم تهميش دور المعلم وأصبحت مهنته مجالا للتندر - حتى في أفلامنا السينمائية ، غلبت حينئدٍ قيم الشطارة على الجدارة ، وقيم التجارة على الدرس والتعلم ، وقيم الالتزام بدفع الرسوم واثمان الحصص الخصوصية على قيم احترام المعلم.. واصبحنا امام مشكلة معقدة ، اقتصادية وتربوية واجتماعية وتعليمية في آن معاً ، وضحاياها من المعلمين والطلبة على حد سواء ، والخاسر الاكبر فيها المجتمع ، والمسؤولون عنها نحن جميعاً بلا استثناء.
اعادة الكرامة لمهنة التعليم ، والتقدير للذين بحت اصواتهم وتلوثت اصابعهم بالطباشير ، واعادة التربية لأبنائنا الذين (تحرفت سلوكياتهم وقيمهم تجاه معلميهم )، تحتاج الى ما هو أبعد من السؤال عن جدوى الاضراب من عدمه ، او من رفع رواتب المعلم وتحسين احواله ، او من تنظيم المهنة ومعالجة العزوف عنها.
انها تحتاج الى مراجعة شاملة لما أصاب مجتمعنا من تحولات واصابات في قيمه واخلاقه ومؤسساته ومناهجه في السياسة والتنمية وغيرها.. وتحتاج ايضا الى معرفة ما اذا كان لدينا مشروع واضح ، لنعرف من خلاله: من نحن.. وماذا نريد؟
الدستور