أسمع شباناً يتبارون بينهم ومن باب التفاخر, يقول أحدهم بفخر عارم , "أتعرفون كم نمرة حمراء تدخل قريتنا مساء كل خميس".. "أكثر من عشرين نمرة", فيرد آخر بإستهزاء شديد.."نعم..! إحنا بنزل على بلدنا لحالها أكثر من خمسة وثلاثين نمرة بتبات خميس عجمعة"..
في حارتنا..لا لوحات حمراء إلا لماماً, لكن سيارة واحدة بلوحة حمراء تكاد تحدثني كلما رأيتها في مهمة جديدة امام واجهة الشارع حيث يسكن المسؤول الذي يقتنيها..وكأنها تريد أن تحكي كل شيء..
"أتذكر رحلتي مع أكثر من مسؤول إقتناني " تقول السيارة, "بعضهم هادىء الطباع والبعض الآخر يتسم بالشراسة أوبالقسوة, أتذكر أبناءهم وأسرهم ,أعرف أصدقائهم وسكرتيراتهم, وبِتُ أذكر مدراء مكاتبهم كلهم"..
"لطالما انتظرت ذلك الصبي, إبن المسؤول الكبير على أبواب المدرسة, حتى بعد أوقات دوامها, عندما كان يلهو مع الأصدقاء ويماطل..متناسيني تماماً, وأذكر أنني أداوم على زيارة ذلك السوبرماركت الفخم عند الدوار الخامس, أنتظر عبده وهو يقوم بجولة التبضع الأسبوعية للأسرة".
"حملت كل ما يخطر على بال بشر..ما زلت أذكر, عندما أثقلوا كاهلي بقطع الأثاث التي كانت بحاجةٍ للتصليح, بالكاد أُغلقت أبوابي, وعندما حُملت الشاشة الكبيرة تلك, أتذكر كم سرنا ببطء حفاظاً عليها وبناء على أوامر السيدة زوجة المسؤول" .. "حملت المآسي والقصص والحوارات, ومازلت".
"أذكر جيدا عندما أرسلوني الى محل الأزهار لأُزين..! وكيف أحاطوا خاصرتي بالوررود والبالونات والشَبَر الأحمر, لأتقدم( فاردة ) شقيق المسؤول الصغير, قضينا ساعات سيراً بإتجاه قاعة الأفراح, يومها , تعب منبهي وكاد يذوب لكثرة ما إستخدمه ابوخالد السائق" .
"ضبطوني مرة أمام ذلك النادي الليلي الواقع عند أحد الزوايا المظلمة في شارع الجاردنز..لكنني أفلتُ بشطارة سائقي, أذكر أيضاً عندما استوقفني رادار الدوريات الخارجية على طريق البحر الميت, اصدقاء صاحبي ابن المسؤول وانا, ايضاً مرت تلك الحادثة على خير..".
"ماذا يعني إن كان صاحبي (المسؤول) قد أعارني لصديقه لبضع ساعات , لقضاء حاجة, إنها ليست نهاية العالم , على الأقل كان ذلك أرحم بكثير من قيام ابن المسؤول الكبير بسرقة مفتاحي وقيادتي برعونته المعروفة, كم تعرضت لضربات وكدمات وإصابات , طالت كل ناحية من هيكلي جراء ذلك, ولم يتعرض هوَ يوماً لتوبيخ او عتاب..اما انا فأذوب بحسرتي وآلآمي , أُجرجر ليتم إصلاحي وأعود بكامل جاهزيتي لخدمة أسرة المسؤول والوقوف على حاجاته.".
"أوصلت المدام مراراً لصالون السيدات وانتظرت مع سائقي الطيب, وتابعت أعياد ميلاد كل أصدقاء وصديقات الأولاد في مناطق عمان الغربية قاطبة.. بِتُ أعرفهم جميعاً , حتى في الجمع والعطلات كنت على أُهبة الإستعداد..لرحلة أو "شطحة" , إن لم تكن للسيد المسؤول وأسرته السعيدة فلذلك الأرعن الصغير وزمرة أصدقائه.. زرنا كل الأماكن السياحية والترفيهية ..والمزارع".
"مازلت أذكر ذلك المشهد المخزي الذي أُضطر صاحبي المسؤول وصديقة له..أن يغادراني بعد أن أصر مندوب ديوان المحاسبة وشرطي مرور على ذلك, بحجة انهم يستخدموني بشكل يثير الشبهات وخارج أوقات الدوام الرسمي, كاد الأمر ان يتكرر لاحقاً مع ابن المسؤول الذي اصطحبني في جولة مختلطة, لكنَ الله سلم, وإنتهى المشهد دون اضرار..".
"تعبت ..ليس من الحراك الدائم والتجوال المستمر بين الرسمي والخاص..والخاص جداً, بل سئمت من تلك الحكايات الممجوجة والأرقام والقصص التي اسمعها كل يوم في صالوني من المسؤول وأصدقائه وعبر إتصالاته.. سمعت قصصاً عن (الأسافين) وعن استبعاد ذلك الموظف وتوضيب أمور ذلك الموظف الآخر.. عرفت أشياء وأسرار كثيرة..لايمكنني البوح بها حتى وإن دُفِنَتْ معي في (السكراب)..أو حتى أنتهي أمري الى التقاعد بعد أن تتنقل لوحتي الحمراء الى سيارة حكومية فارهة وجديدة تناسب مكانة المسؤول القادم".
النهاية..
بالمناسبة..( رصد ديوان المحاسبة العام الماضي 7390 مخالفة تتعلق بتجاوزات في استخدام السيارات الحكومية معظمها تتعلق بالإستخدام الشخصي ما يشكل 40% من حجم أسطول السيارات الحكومية الموجودة لتسهيل الأعمال الحكومية وتسيير الشؤون الرسمية للدولة).
الغد