الأفلام التي تعرضها إدارة قوات الدرك للتدريبات المختلفة لعناصرها، تظهر مجموعات منها تقوم بتفريق بعض المظاهرات من خلال الاشتباك المباشر في محاكاة ميدانية ، لما يمكن ان يحدث بإحداث الشغب المفترضة.
إلا أن المجموعة التي تتلقى ضربات رجال الدرك خلال التدريب تقوم بلعب دور الدرك في المرة الاخرى ، ما يعني ان الجميع يتعرضون للضرب في نهاية الأمر، في سياق تطوير مهاراتهم على التعامل مع احداث الشغب والمظاهرات التي تخرج عن القانون .
تفسير قيادة الجهاز لهذا الاسلوب من المناورات بأنه لا يمكن تجريب شيء على المواطنين دون تجريبه على الدرك انفسهم ، فرجال الدرك يتعرضون لكل اشكال العنف التي يمكن ان يعرضوا المواطنين لها حتى يصبحوا أكثر دراية وخبرة في تأثير هذا العنف على من يقع عليهم باعتبار العنف حقا مشروعا تم منحه للدولة وحدها كإطار سياسي حديث لحماية افراد المجتمع .
وهذه الحرفية التي كانت مثار اعجاب المحيطين من حولنا تتماهى مع القرار السياسي الذي يعتبر الدم خطا احمر داكنا لا يمكن تجاوزه في التعامل مع كافة اشكال الاحتجاج التي ظهرت في الاردن، منذ بدء الربيع العربي، وهي التي وضعت الأردن في مرتبة متقدمة، واكسبته مصداقية في مشروعه الإصلاحي مع داخله قبل محيطه العربي والعالمي .
ربما تكون بعض الاشكاليات حدثت هنا او هناك لكن الصورة العامة والكلية تؤكد ان مشروعية العنف في التعامل مع الاحتجاجات عندنا تحتكم الى ضوابط صارمة تنأى عن توظيفها لعقاب الدولة مع المختلفين معها او إخافة الآخرين ولكنها انحصرت بضبط النزاعات بين المتخاصمين .
المتابع لجملة المسيرات والاعتصامات التي تجوب مختلف مدن المملكة يلمس مدى التنظيم والادارة التي تبذل في تأمين الحماية الايجابية لمثل هذه الاحتجاجات .
وسواء تقاربت الاجتهادات او اختلفت على تفاصيل خطوات الاصلاح الاقتصادية والسياسية، الا ان احدا لا يمكن له ان يختلف على حسن الادارة الميدانية في حماية الاحتجاجات وصونها وتمكينها من التعبير عن نفسها.
قد تكون احداث الداخلية ووسط البلد ندبة في وجه الربيع الاردني ، ولكنها بلاشك ساهمت في انضاج موقف وطني وطورت من فهم الأجهزة الشرطية تجاه ضوابط عنف الدولة ومحدداته ولم تدفعها لأن تركب رأسها ، وربما يكون هذا واحدا من اهم انجازات الربيع الاردني وابرز ملامحه .
فهيبة الدولة تتحقق بتوافر فرص التعبير الحر لمواطنيها على اختلاف ارائهم ومن خلال حماية أي طرف من تغول الطرف الآخر عليه واستخدام العنف ضده ، وجملة الممارسات الميدانية للدولة في تعاطيها مع الحراك تعكس فهمها الى ان انتقائية استخدام هذه السلطة تترك فئات اجتماعية في مجال الاغتراب والبعد عن سيادة القانون .
رياح التغيير التي حملها الربيع العربي كانت مفاجئة للجميع ولم يكن احد مستعدا لها وكان من الطبيعي ان تظهر بعض الأخطاء هنا وهناك ولكن “ميكانزمات” الدولة الأردنية اظهرت قدرتها على التطور والتحور واستيعاب هذه المتغيرات، وهي شهادة حق ينبغي تسجيلها للقائمين على هذه الأجهزة الذين تكاملت ادوارهم وتأطرت اجتهاداتهم في سياق وطني .
هذا النجاح الذي توج بعدم قتل أي مواطن ثمنا لتعبيره عن رأية وفر مرونة كبيرة للقرار السياسي للتفاعل مع كل معطيات الواقع ومتطلبات التغيير .
وبعيدا عن الاشكاليات الفلسفية التي تراوحت بين اجتهادات ميكافيللي في حصر مشروعية استخدام العنف بيد الدولة بكل انواعه وبين غاندي الذي يعتبر العنف غير مشروع بكل اشكاله لأنه يلحق الأذى بالآخر فإننا نجد ان الحاجة باتت ماسة من كل قيادات العمل الشبابي والجماهيري للارتقاء بمستوى التعبير بما ينأى به عن شبهة استدراج العنف والبحث عن بطولات .
فالعلاقة بين العنف والدولة تؤطرها عندنا قوانين وتحكمها اعتبارات يتوافق عليها الجميع اولها حفظ النظام العام وعدم الحاق الأذى بالغير .
الأجهزة التنفيذية لدينا طورت مهاراتها وادبياتها تجاه فكرة العنف ومحدداته بإذكاء روح التسامح والتحفيز على النقد والانفتاح على الآخر، ولكن ذلك يجب ان يقابل من المواطنين بالحرص على تطوير اشكال الحوار والحفاظ على الممتلكات العامة وعدم التجاوز على حقوق الآخرين وعدم إلحاق الأذى بالغير .
ان استباب الأمن والنظام هو الهدف الأسمي والأول لكل دولة واذا لم تحافظ عليه فإنها تفقد مشروعيتها ومبررات وجودها ما يستدعى عدم الانحراف بأشكال التعبير والاحتجاج حتى لا يتم حشر الدولة في دائرة الخيارات الضيقة لأنه عند ذلك يصبح الجميع خاسرين .
الدستور