حقيقة أنّه أمر مثير للانتباه، وما يتلوه ذلك من استغراب واستهجان وصولاً إلى الضجر والشعور بأن العقل لم يعد يفهم، أو يستوعب، وبالتالي أن يصدّق أو يثق أو يقتنع أو يؤمن. وذلك عندما بدأتُ أتابع منذ زمن وسائل الإعلام وهي تنقل، أو ترصد، أو تستمع إلى ما يصرّح به السادة المسؤولون، قبل أو أثناء أو بعد زياراتهم لأي موقع من مواقع عمل مؤسساتهم واختصاصتها.
وما يصرحه البقية منهم، وهم يتحدثون عن الإنجازات التي يسعون إلى تحقيقها، لتكتشف في النهاية أنك أمام مواضيع إنشائية، جرت صياغتها بشكل فج وغير دقيق، إذ كان الهمُ كلّه منصبّاً على تكثيف حجم الدعاية والتلميع حتى لو اقتضى الأمر التزييف ومجانبة الحقيقة والواقع.
ومن أمثلة ذلك أن الوزارة أو المؤسسة الفلانية، تهدف إلى التسريع في الاستجابة لحاجة المواطن وتلبيتها، دون أن ندري كيف ومتى ومن هو المسؤول إن لم يتم ذلك وكيف يمكن محاسبته؟!.
أو تقرأ أن المسؤول (وزيراً أو غيره) قد أكّد على أهمية تنفيذ الكثير من الخطط التي تراها دائرته (أو وزارته) ضرورية. أي أنها هي التي تحدد مدى الضرورة، ونوعها، وتصنيفها، ومعناها. وبالتالي فإن لا أحد يمكن أن يُساءلها إنْ هي لم تنجز شيئاً.
أو تسمع «أن المسؤول (أو الوزير) قد أشار إلى أهمية توفير الدعم الكامل لجميع مشاريع دائرته (أو وزارته). عندها يجب علينا أن نكتفي بالإشارة لأن اللبيب هو الذي بالإشارة يفهم. ثم عندما تشير إلى الأهمية فإنك في الواقع، لا تلزم نفسك بتوفير الدعم، إذ يمكنك، وبكل بساطة، أن تكتفي من الانجاز بأنك «أشرت إلى الأهمية».
أو يُنقل إليك عن مصادر موثوقة بها أن الدائرة (أو الوزارة) تسعى لإيجاد جملة من الحوافز الهادفة إلى تشجيع مكونات العمل. وهنا تدرك بكل وضوح وبساطة أن هذه الجهة مهتمها «السعي» فقط، ولكن صفة هذا السعي، ونتائجه ومتابعته فهو أمر مرهون بمقدرات الغيب على أساس «أن ليس للإنسان إلا ما سعى».
وفي مكان آخر ينقل الإعلاميون قول المسؤول (أو الوزير) أنه سيتم في القريب العاجل دراسة إمكانية الاستعجال في وضع الخطط والتصورات. وفقط هنا أريدك، سيدي المواطن، أن تلاحظ عدد المراحل التي سيمر بها الإنجاز إنْ كان هناك انجاز، فأولاً «التسويف» ثم ربط ذلك «بالقريب العاجل» الذي لا سقف زمني له، ثم البدء «بالدراسة» و»استعراض الإمكانيات» و»الاستعجال» وتأتي الطامة الكبرى في أن كل هذا الحشد مقصود منه فقط «وضع الخطط والتصورات»، وهذه مرحلة تحتمل الخطأ والصواب لأنها كلها تقع في باب الاجتهادات. وفي آخر المطاف يجب علينا أن ننتظر «العليق» لتبدأ هذه الخطط والتصورات في رؤية النور، وهذا غالباً ما لا يحدث. ومن عظيم الدواهي أنك تقرأ نقلاً عن هذا المسؤول (أو الوزير) أن دائرته (أو وزارته) ستعمل على إعادة النظر في جميع الخطط السابقة.. أي أن نبدأ من قبل البداية، ومن مرحلة ما قبل الصفر، لأننا نحرص دائماً على وضع نقطة ثم الذهاب إلى بداية السطر من جديد.
ومن المفرح المفجع أنك تطالع أحياناً كثيرة مقولة أن المسؤول (أو الوزير) قد استمع إلى جميع المطالب، وأكد عزمه على دراسة كل الإمكانيات لتنفيذها. أي أنه ربط التنفيذ بالدراسة ثم في تحديد الإمكانيات وبعدها سيبدأ التنفيذ دون التزام بزمن أو بمدى أو بنتائج محددة.
وبعد كل هذا نسمع أن الوزارة تغيّرت، وأن وزارة جديدة قد تشكلت قبل أن يتمكن السابقون حتى من النظر في الوعود التي أطلقوها. وفي اليوم التالي نبدأ المسلسل من أوّله، وكله موسوم بعنوان واحد هو «ستعمل الوزارة...»، أما نحن فسنظل في «السّوق» حتى تتقطّع أكبادنا.
الرأي