إكتشفت أن ثمة علاقة وطيدة تربطني بمشاريع الحفريات بكافة أشكالها وأصنافها, فأينما ذهبت أجد أنني سبقتها بخطوة أو هي سبقتني بخطوات.. حفريات على جانب الطريق وفي خصر الشارع وعلى أمتداد الأوتوستراد وحتى عبر الدوار..
أتساءل من الذي يخطط لحفرٍ أن يبدأ في شارع لحظة الإنتهاء من إفتتاح هذا الشارع وقبل أن تتكحل عيون المارة والمحيطين بسواد طلته..من يخطط من البداية أن علينا إفتتاح الشوارع ومد الطرقات المعبدة ثم نستهل بكل ما قدر لنا من حفر وتنقير..
على ناحية كل شارع جديد, ثمة حفارة بالإنتظار, تتربص اللحظة لتنقضَ قبل أن يسبقها رجال الأمانة بزرع مطبات الإفتتاح..!
مازلنا نحفر منذ ثمانين سنة دون أن ننتهى..فنحن بلاشك دولة تنموية بكل ما تحمل الكلمة من معنى, على وزن الإعلام التنموي, والخطط التنموية , أصبحنا مواطنين تنمويين, علينا أن ننمو على النحو الذي تراه الحكومة بمؤسساتها وحفرياتها وتحويلاتها..
لم أرى منذ سنين طويلة لوحة في بإحدى المدن الأوروبية التي نعرفها..يقول "تحويلة عذرا"ً..مشروع حفريات الصرف الصحي بفيينا, أو شق شبكة مياه في الجادة الرابعة بباريس..
هنا نحن رهينة المشاريع الحكومية الجهنمية التنموية التي أتت على أنفاسنا, أضطررنا مثلاً للإلتصاق ببعضنا البعض, وكدنا نتلامس, أختنقنا بعد أن أكل مشروع الباص السريع طريقنا الفاره الوحيد في عمان, فلا ظفرنا بالباص السريع ولا بغيره, ومازلنا نلوذ وسط الزحام بحل سريع ..غير تنموي..
أنهكتنا الأغبرة والتوَت رقابنا لكثرة التحويلات..وبات مشروع طريق المطار, حدث القرن الذي لا ينتهي تماماً كمشروع المطار نفسه , ضاقت الدنيا حتى أعتقدت وقد أعدت الشوارع الجانبية الضيقة , وكثرت الإلتفافات , أن هذا هو آخر عهدي بشارع المطار الذي نعرفه الذي عشنا معه مشاريع تجديد وتعبيد متواصلة على مدى الأيام ..ذهب أثرها سريعاً على إيقاع تنموي.
أصبحت حياتنا كلها تحويلة..مع إعتذار حكومي شديد التهذيب تحمله اللوحات الباهتة "عذراً..تحويلة, فنحن نعمل من أجلك".. تعبنا من دماثة الحكومة وحسن تعاملها, فمن الذي يخاطب شعبه بهكذا لغة "عفوا, الطريق مسدود للإنشاءات, نحن نعمل من أجلك" أصدق يقيناً الآن, أن الطريق مسدود, لكني لم أعرف إن كان علي أن أصدق أنهم يعملون من أجلي..
إجهدتنا شعارات مراقبة الرادار على الطرق,التي ما أن تجاوزناها, حتى خرج شرطي سير يخالفك على حزام الأمان وما أن يبدأ بتحرير المخالفة, حتى تكتشف أن العشرات قد مروا في هذه الأثناء وقد تجاوزوا السرعة ولم يضعوا أحزمة الامان وابتسموا لإنشغال الشرطي بتحرير المخالفة..
على الحدود يتوقف الموظف عن قراءة خبر يبدو انه مهم في صحيفة يتأبطها, فينظر اليك بحزم ويخبرك بأن صندوق السجائر الإضافي الذي تحمله ..مخالف للقانون, تُسَلِم أمرك لله ثم يسقط نظرك على الخبر الذي كان يشد أهتمام الموظف " عملية غسيل اموال كبرى .." فتبتسم كما تأمرنا الحكومة وترحل.
إبتسم .. أنهكتنا صورة الموظف الذي يرسم بحذر أبتسامة عريضة وهو يمضي بحكايته مع زميله المجاور, يلتف الينا بصعوبة وبعد الحاح منا يكون الجواب "أرجع غداً" مقترناً بكشرة خاصة لايعبر عنها بأداء طبيعي الا نحن..
فلما نصدق أوامر الحكومة, ولا نبقى على طبيعتنا
تعبنا.. لعلي وحدي تعبت وأنا أحاول الأجابة على السؤال الشهير الذي أطلقته حكومة ما في حملتها لحث المواطنين على التوجه للإقتراع في الإنتخابات النزيهة الأخيرة..كان السؤال "الكل جاء..أين أنت","صوتك وين" عرفت الآن أن لامكان لصوتي ,في مكان, خصوصاً في إنتخابات تنموية نزيهة ..
كذلك صدقت مثل الكل شعارات الروح الرياضية, واللعب النظيف, بعد هذا , لم نعد نذهب لمباراة , نعرف مسبقاً شعاراتها وأهازيجها ونهاياتها.. حتى رياضتنا أصبحت تنموية.
بتنا حلقة في سلسة أوامر لاتنتهي ..قف, أعمل, أذهب , غادر ..إبتسم, إنتخب , خَلِصْ , صرنا جزء من مشهد تنموي لا ينتهي..
نعود لشارعنا الجديد الذي ودعناه صباحاً, لنكتشف أن ورشة حفر قد بدأت ,وهناك عند نهايته, أمام منزل المسؤول إياه قامت فرق ما بزرع مطب مُخيف بعد أن طلب المسؤول ذلك ردعاً لكل من تُسول له نفسه المرور مسرعًا من أمام منزل عطوفته.