لم تلجأ نقابة المعلمين إلى إعلان الاضراب العام, إلا بعد أن وصلت إلى طريق مسدود في مفاوضاتها مع الحكومة لالزام الاخيرة, بتنفيذ تعهدات سابقة بتحسين رواتب المعلمين, وشمول المتقاعدين منهم بالعلاوة المتفق عليها.
حال المعلمين لا يختلف كثيراً عن حال معظم الاردنيين, خاصة, ولكن ليس حصراً, العاملين في القطاع العام, المكافحين من أجل تحقيق حياة كريمة لاسرهم وأولادهم, في ظل أزمة اقتصادية حادة, وارتفاع مستمر في الاسعار, تدفع فئات واسعة إلى حافة الفقر, والشرائح الفقيرة نحو خطر الجوع واليأس.
لكن قضية المعلمين تعكس أيضاً, خللا جذرياً ومنهجياً, يتمثل في غياب رؤية تربوية وفلسفية, أدت إلى الاستخفاف بهذا القطاع الاستراتيجي, الذي تعتمد عليه المجتمعات في بناء مستقبلها, إذ أن المدارس, والجامعات, هي المحك لقياس قدرة المجتمع, ونجاحه في استثمار الانسان - مورده الرئيسي, الدائم, والمتجدد.
غياب الرؤية الاستراتيجية, أدى إلى قلة احترام الجهاز التعليمي , ومتطلباته, وإلى الاستهانة المهنية والانسانية بالمعلم, بالرغم من اعتراف الجميع, اللفظي على الاقل, بدور المعلم بتنشئة الاجيال, وبناء مجتمع صحي وقوي, ووطن منيع, وغيرها من التعبيرات الجميلة, وحتى الابيات الشعرية الرائعة, التي شبهت أشهرها المعلمين بالرسل, ولكن هذه البلاغة اللغوية التي أبدعت في وصف المعلم عبر التاريخ , تتهاوى سريعاً على أرض الواقع, عندما يصطدم المعلم, بإهمال الدولة له, وأحيانا استخفاف المجتمع به و بكرامته.
صحيح أن المكافأة المادية ليست وحدها المعيار لتقويم المعلم, ولكن يجب أن لا نخدع أنفسنا, فشعور المعلم بالعوز المادي, لا ينتقص من كرامته فحسب, ولكن قد يؤثر على أدائه, عدا أننا نعيش في مجتمع مادي يربط مستوى الاحترام بالمستوى المادي لذا فان احترام الدولة للمعلم, معنوياً ومادياً, يعزز مكانة المعلم في المجتمع وداخل غرف الصف أمام الطلبة وذويهم.
بالطبع فان المشكلة لا تقتصر على التقصير نحو المعلمين, بل حال المعلمين يمثل جانبا من أزمة تربوية أعمق تتهدد نظام التعليم الحكومي, فالاهمال وعدم التخطيط يشمل النقص الحاد, في كثير من المناطق, من غرف صفوف, ومختبرات علمية , ومكتبات, وملاعب, عدا عن عدم كفاية, او عدم وجود تدفئة, أو مرافق صحية, وما يتبعه مشروط لخلق بيئة صحية ونفسية لتسهيل العملية التعليمية للاساتذة والطلبة على السواء.
إضراب المعلمين يقرع ناقوس الخطر الذي يهدد ليس نظامنا التعليمي فحسب بل المجتمع بأكمله, ولم يكن من الصدفة أن قادة هذا القطاع, ومن أبرزهم,على سبيل الذكر لا الحصر, الاستاذان مصطفى إرشيدات وأدما زريقات, أنهم ثاروا للمطالبة بحقهم في نقابة خاصة بهم, قبل بدء الثورات العربية, وان انتصارهم ساهم في إذكاء شعلة وعي الفئات العاملة للمطالبة في حقوقهم, فذلك استمرار لدور المعلمين التاريخي في قيادة الاحتجاجات, الحقوقية والوطنية منها, في الوطن العربي والعالم أجمع.
السبب المباشر الذي أدى إلى الاضراب, مع تأكيد أن الازمة قديمة ومزمنة, هو في تراجع الحكومة عن تنفيذ وعدها بصرف علاوة التعليم كاملة ابتداء من أول العام الحالي, اضافة إلى الصدمة التي انتابت, قطاع المعلمين, كما القطاعات الاخرى, من تفاصيل عملية الهيكلة, التي تم الترويج لها على أنها وسيلة لتحقيق عدالة في توزيع الرواتب ورفع سوية العاملين (مما يطرح تساؤلا إذا كانت الهيكلة المطروحة لها علاقة بالخطة الاصلية), وإذ بها تقوم بالعكس تماماً, وتؤدي إلى الاضرار, بوضع المعلمين وغيرهم من موظفي وعاملي القطاع العام.
ومع نقدنا لموقف الحكومة الحالية, ولكن يجب الاقرار أنها ورثت حملا صعباً, يحتاج إلى حل جذري, ليس لمسألة الفساد وسلب أموال الدولة فحسب, بل يتطلب الامر إعادة النظر في توزيع النفقات, فدولة مثل تركيا مثلا, فهمت أهمية قطاع التعليم الاستراتيجية, فرصدت له ميزانية أعلى من ميزانية الدفاع, ولم تتوان عن تخفيض نفقاتها العسكرية لصالح قطاع التعليم.
المطلوب قرار حاسم, من أعلى المرجعيات, ليس فقط من أجل تخفيف حالة الاحتقان المجتمعية, بل من أجل إنقاذ مجتمع من التهاوي.
(العرب اليوم)