من بين كل المهن الاحترافية أو المتخصصة يعد المعلمون أصحاب المهنة الأشق والأقل تقديرا في الوقت ذاته.
المعلمون في الأردن يعانون من نقص التقدير المادي والمجتمعي لمهنتهم ولعل الأخير قد تأثر بالأول في زمن بات فيه مقياس الأهمية والمكانة هو المال.في جميع المهن الأخرى حين يعود الفرد إلى بيته فإنه يستمتع بساعات مريحة بين أهله وأصدقائه بعيدا عن متطلبات الوظيفة، إلا في مهنة التدريس فالدفاتر والكتب والخطط التدريسية جميعها يحملها المعلم إلى بيته، سيان في ذلك معلم المدرسة أو أستاذ الجامعة.
المعلم لدينا يخطط لدرسه ويصمم النشاطات ويشرف على تنفيذها ويدرس ويصمم الاختبارات ويصححها ويقرر الواجبات ويتفقدها ويقومها، وهو مطالب أيضا بعمل البحوث والدراسات، خاصة أستاذ الجامعة الذي لن ينمو أو يترقى في مهنته إن هو لم ينتج عددا معينا من الأبحاث تتمتع بالجدة والأصالة.
المعلم لدينا مطالب أيضا بخدمة المجتمع، والتنسيق مع مؤسسات وجهات أخرى لتعميم خدماته إليهم، ما بين ورشات عمل ومشاريع وندوات ومسابقات ونشاطات مختلفة، وهو مطالب أيضا بمواكبة أحدث التطورات ليس في مجال تخصصه فحسب، بل في مجالات الحوسبة وعلم الاتصالات الالكترونية، وإلا تخلف عن الركب وفاتته فرص الترقية والنمو.
المعلم مطالب بالتعامل مع جمهور واسع يقدم له خدماته وعصارة جهده وفكره بدءا من الطلاب، وأعدادهم وتبايناتهم هائلة إن في المدارس أو الجامعات، ومرورا بالزملاء والإداريين والمشرفين التربويين ورؤساء الاقسام والمدراء وغيرهم من المسؤولين، وهم في معظم الأحيان يشكلون ألما في العنق، وصولا إلى الأهالي وباقي شرائح المجتمع الذين يجد نفسه في احتكاك مستمر معهم عبر برامج خدمة المجتمع المحلي.
أمام ذلك كله فإن المعلم لا يحظى بمردود مادي أو معنوي مواز لما يقوم به من جهد ولما يكابده من عناء ويتحمله من مشقة تأكل من طاقته العصبية والنفسية وتستنفد مخزونه العقلي، فرواتب المعلمين هي الأدنى في سلم رواتب موظفي الحكومة، حتى بات التدريس مهنة من لا يجد مهنة أخرى، وحتى باتت كليات التربية تخرج من لا يرغبون بالتدريس ومن يأتون لأن معدلاتهم لم ترم بهم إلا في تلك الكليات، وهو ما أضر بالمهنة أيما إضرار، وتسبب في تخلف مجتمعاتنا وتراجع قدرة الأجيال على العطاء العلمي والإبداعي، فالمعلمون هم صانعو الأجيال وهم من يخرجون كافة المهن الأخرى، وإن كان الطبيب حين يخطئ يتسبب في مقتل مريض فرد، والمهندس حين يخطئ يتسبب في مقتل عشرات كانوا فوق ذلك الجسر أو في تلك البناية، فإن المعلم حين يخطئ يدمر أمة كاملة ويعطل أجيالها عقودا للأمام!
في السابق، كان المعلمون هم خيرة العقول في المجتمع، وكان من يدرس الصغار هو أعلم شخص في القرية أو البادية أو المدينة، وكبار العلماء في القرون الماضية كانوا هم من يدرسون الطلبة، أما اليوم وبعد دخول نظام التعليم الرسمي فقد تراجع دور المعلم وتأهيله مع أن العكس يفترض أن يكون الحال، ولم يعد المعلم هو الاكثر علما وقدرة وخبرة، لأن من يحمل تلك المواصفات سيربأ بنفسه عن تلك المهنة ويبحث عن مجالات أخرى للرزق تدر عليه دخلا وفيرا وتحقق له مكانة اجتماعية مرموقة تتلاءم مع جهده وموهبته.
المعلمون الموهوبون باتوا قلة في مجتمعنا، وحين يوجدون، فإنهم إما يهاجرون إلى الخليج والدول العربية النفطية أو يهجرون التعليم الحكومي إلى الخاص حيث يحصلون على رواتب أكبر وتكون النتيجة أن من يبقى في التعليم الحكومي هم إما الأدنى موهبة وقدرة أو من لم تتوفر لهم فرص بديلة، وهم في معظمهم غير راضين أيضا عن أحوالهم ولا يبذلون إلا الحد الأدنى من الجهد بناء على فلسفة الحد الأدنى من الراتب المطبقة.
المعلمون هم المهنيون الوحيدون بلا نقابة تدافع عن حقوقهم لأن الحكومات تخشاهم وتخشى إضرابهم وتخشى تنظيم عملهم والنتيجة أنهم يبقون تحت رحمة الحكومات.
بما أن الحكومة تفكر حاليا في إعادة النظر في الرواتب، وبما أننا مقبلون على تحرير كامل للأسعار في كل المجالات والسلع وعلى رأسها المحروقات والأعلاف مع مطلع العام القادم، فإن رفع رواتب الأردنيين في القطاعين العام والخاص تصبح أولوية كي يتمكن المواطنون من تحمل تحرير السوق وارتفاع الأسعار وكي تعود للمواطن قدرته الشرائية التي تنعكس بدورها على الازدهار الاقتصادي وحركة السوق، وضمن الإطار ذاته، فإن رفع رواتب المعلمين يجب أن يكون أولوية، وليس بخمسة دنانير وعشرة دنانير على طريقة الحكومة، وإنما بنسبة مئوية معقولة تتماشى مع التضخم السابق والقادم المتوقع خلال السنوات العشر القادمة.
لقد منحت الحكومة الكثير من القطاعات الهامة كالأطباء والممرضين زيادات وبنسب بلغت 35% على الراتب، ولكن المعلم بقي بعيدا عن الكعكة لأنه لا توجد نقابة تتحدث باسمه وتدافع عنه.
آن الأوان لإنصاف المعلمين في الدولة سواء في المدارس أو الجامعات، لأن العكس يعني تدهور العملية التربوية وهي أساس التنمية المجتمعية في كل القطاعات، ويعني انتشار الرشاوى وشراء الامتحانات ومنح الدرجات على أسس غير الكفاءة وهجرة العقول المبدعة إلى الخارج أو إلى القطاع الخاص.