في مرحلة ما من تاريخ الديكتاتوريات الشمولية في العالم راج ما سمي بروايات القمع, واذكر انني عندما ترجمت احداها, " قصر الاحلام" للالباني اسماعيل كاداري, كان القراء ممن تعرضوا لهذه التجربة - وما اكثرهم - يقولون لي إنهم احسوا ان الرجل يروي قصتهم, رغم اختلاف المكان.
مع مرحلة العولمة, والنيوليبرالية اصبح العالم يعاني من ديكتاتورية اخرى هي ديكتاتورية السوق, التي تتجلى احدى تعبيراتها في ظاهرة الفساد, التي قال الان كوتا ( نوبل للاقتصاد ) انها ملازمة حتما لهذا النظام الجديد, وتتفاقم اكثر في الدول التي يتطلب هذا النظام القضاء على اقتصاداتها وكياناتها وارتهان قراراتها.
رواية " غاردينيا ", لعبد الرزاق بني هاني, نموذج خاص لتجسيد هذه الظاهرة, وتتبع نشوئها وتطورها وابعادها, في شبكة بالغة التعقيد, يلتقي فيها الاقتصادي بالسياسي بالاخلاقي.
وكما في روايات القمع, او في الاعمال الفنية التي احيت تاريخ ملوك الطوائف, ثمة احالة مكانية او زمانية تسمح للكاتب بمزيد من الحرية في نقل الاحداث وتشخيص الحقائق.
في مكان ما من جنوب افريقيا تقع مملكة غاردينيا التي تعاني من ظروف صعبة معقدة, وجوديا واقتصاديا, من ارث استعمار خارج للتو واخر قادم ليهيمن, اضافة الى احتلال غريب لمملكة الميزاب المجاورة يهدد يوميا غاردينيا. لكن التهديد الاكبر يكمن في مجموعة اشخاص يعبرون بطرق مشبوهة الى مواقع المسؤولية الاقتصادية, ويخوضون صراعا صامتا وخبيثا للقضاء على كل امكانيات اقتصاد الانتاج, لاغراق المملكة في الديون الخارجية وتكبيلها بالاتفاقيات الاقتصادية التبعية, ولترسيخ الفساد الاقتصادي والاداري ومن ثم السياسي في كل مفاصل وخلايا الدولة والمجتمع. اما الذين يقاومونهم فيتعرضون للتهميش والاقصاء الى ان تكتمل الخطة, حتى اذا وجدت النية في اصلاح الامور من قبل اولياء الشأن, بدت الامور اصعب من المتوقع, وعادت غاردينيا في الصفحات الاخيرة من الرواية الى الاحتلال.
أما أحداث الرواية فتدور بين عامي 1789 تاريخ الثورة الفرنسية وعام 1853 تاريخ نهاية الحرب الاهلية في غاردينيا, وما بينهما من احتلال البريطانيين لراس الرجاء الصالح وسيطرة قبائل السعدان على الغرابة, ونشوء دولة ارياستيكا من تحالف القبائل المهاجرة من جنوب افريقيا واوروبا, حرب القرم, الحرب الاهلية في غاردينيا, حروب الزولو وحرب الغوير ومعسكرات الاعتقال الفرنسية, وجنوب افريقيا حتى حرب الجزائر, واخيرا تطورات الوضع الدولي ومحاولات الملكة منيعة للنهوض بمملكتها, موتها وعودة المنفي هاميلتون مع قافلة الفساد والمرتزقة البيض الذين ارسلتهم شركات النفط والتعدين الاوروبية للقتال معه ثمنا لعقود التنقيب.
ورغم ان الكاتب قد حرص على التوثيق التاريخي الدقيق, والاشارة في الهوامش الى احداث وتواريخ واقعية, كما بنى من جهة اخرى عالم فانتازيا يذكرنا بعوالم ماركيز, واغرق, من جهة ثالثة في علم الاخلاق والفلسفة وظواهر محددة من علم الاجتماع, فان كل هذه الشبكة قد حيكت لتطرح قضية الفساد ودور اخلاقيات السلطة في صعود وهبوط المجتمعات والدول. عبر شخصيات بنيت بعناية وواقعية, وعبر رؤية واضحة لشبكة المؤثرات الخارجية والداخلية التي ادت الى الحاق الثانية بالاولى, الحاقا استلابيا مدمرا.
كما ان تبين الاحالات الواقعية يجعلنا نقرأ الحال والاحداث في اكثر من بلد عربي, بل واجنبي, وفي اكثر من مرحلة تاريخية, قراءة علمية تقول بان لا نتائج الا وفق المقدمات التي اوصلت اليها.
لا يوجه الكاتب اتهامات مجانية, بل يقدم رؤية تحليلية واضح فيها تأثير التجربة الخاصة المعاشة, ومرارة المقاتل في معركة غير متكافئة, وحرقة المواطن العارف على وطن مستهدف.
(العرب اليوم)