ساجدة التي لا ينساها المطر
ماهر ابو طير
03-02-2012 05:15 AM
يأتي المطر،في شباط،وكلما جاء المطر في شباط،يرتجف قلبي،لان ابنتي»ساجدة» التي رحلت منذ خمس سنوات،ولدت والمطر ينهمر،ورحلت والمطر ينهمر،ويوم تشييعها في شباط،توقف المطر،حتى انتهى التشييع،فانهمر من جديد!!.
يومها قلت:صديقها المطر يبتعد حتى يمر موكبها،ويعود بعد ان ينتهي تشييعها،وكأنه ُيفسح الطريق لها،لكنه لايريد مفارقتها.
شهر حزين،هذا الشهر،يالهذه النرجسة الجميلة،التي ولدت ذات شتاء،وعاشت احد عشر عاماً، ذاك الوجه الاشقرالجميل،كان نورانياً،كنت اتأمله وهو في يومه الاول،فأضع يدي على قلبي لان الوجه ليس ارضياً.وجه سماوي متألم،منذ يومه الاول.
مرت خمس سنوات،ومازالت هنا،قد لايصدق كثيرون،انها تأتيني كثيراً لتعاتب،اكون في لحظات ماقبل النوم،اظنها فوق رأسي،يالهذه النرجسة،التي ُسمّيت في مدرستها بأم عائشة،المفارقة انها لم تعش،وكأن الاسم كان يروي السر بطريقة غير مباشرة.
ذات عزم.برغم مرضها المتعب.كانت تأتيني كل صباح جمعة،في حياتها،لتوقظني قبل صلاة الجمعة.تأخذني برفقها الى الصلاة في المسجد.لباس ابيض جميل.وجه مشرق،يجعلك تقول:سبحان الله.
كأنها الشمس استنارت على وجه صبية،سُقيت من سر زهر اللوز جمالا،ومن الزيتون خضرة قلبها،ومن الصبر صبراً.
ذروة الاشراق في وجهها،اذ تجلس لتصلي على النبي لساعة او اكثر،كنت اسأل اي صبر فيها،مازالت طفلة،ومريضة،لكنها تحب الصلاة والسلام على النبي،فتجلس كل عصر جمعة،لتصلي عليه،ساعة او اكثر،فتشرق الشمس من سر اشراقة وجهها.
حتى اللحظة تفتقدها اختها «غيداء» الطالبة في السنة الاولى في الجامعة،الصبية في منزلي،تريد اختها ايضا،وتبحث عنها في الاعياد والايام واللحظات،وخلف وجوه الدمى والصور والذكريات.
يفتقدها اخوها المسمى «محمد رسول» شهادة مني في اسمه بأن محمداً رسول الله،يفتقدها،غير ان ألعابها واشياءها،ذهبها واساورها وخواتمها،كل ماهو لها مازال حولنا،حتى ضحكتها بصوت مرتفع يفوق جسدها،مازالت تتردد هنا.
تفتقدها والدتها،جدها وجدتها،مازالت بيننا.مدرستها قريبة.مازلت اذكر صبرها في المدرسة،اذ تلعب الصغيرات،ولاتكون قادرة على اللعب معهن لتعبها،تبتسم بصبر،من صبر اولي العزم،ولاتغيب البسمة عن شفتيها:من اين جئت بهذا الصبر ياجميلتي؟لاتجيب!.
ليس من رحمة في البيوت كما الابنة،وليس من وجوه لطيفة،كما الصبية،الابنة او الاخت،فصيل «الرحمانيات» هذا في البيوت،من الام الى الزوجة، لولا الاناث بكل صورهن،لشقي الذكور في هذا العالم، ولعرفوا ان حياتهم بدون هذا الفصيل نقمة.
ينهمر المطر في شباط،ويشتد بي الحزن،فلا اعرف في شباط سوى الكآبة،لانها ايام تفتح ذكريات صعبة،ذكريات الايام الاخيرة في المستشفى،تلك الغيبوبة التي غرقت بها.
كنت عائداً من سفر يوم دخلت في غيبوبة مفاجئة،وعرفت قبل صعود الطائرة بساعة،انها ُمّغمى عليها،وتم اخذها الى المستشفى.
تأكلني الحسرة حتى اليوم،الفرق بين غيبوبتها وعودتي اثنتا عشرة ساعة،لكنهن مؤلمات.اقول ليتني كنت موجوداً.قبل ان تبدأ التحليق بعيداً.فتمكث في المستشفى اسبوعاً،قبل ان ترتحل،الى من هو اكرم واعطف عليها.
لاانسى ابداً حين جئت من المطار الى المستشفى،ودخلت غرفتها،انني همست في اذنها،وهي الغائبة في غيبوبتها «حبيبتي قد جئت،وجلبت لك الهدية التي طلبتها».ابتسمت في غيبوبتها،وتحركت ملامح وجهها،تريد الكلام،فلم تتمكن.
يأتي الشتاء كل عام،غير ان شتاء شباط،بالنسبة لي محزن.محزن جداً.يقال لك ان الايام كفيلة بالنسيان،فلاتعرف عماذا يتحدثون،اي نسيان هذا يكون لقطعة من قلبك،اي نسيان هذا يكون،والشتاء يعود كل شباط!!.
سأنسى اذ غاب المطر في شباط،اما انه لايغيب،فهو يأتيك بكل الذكريات،تلك الذكريات المحفورة في قلبك،المودعة في سرك،تلك الذكريات التي تستفيق كل صباح،وتكاد ان تطرق بيوت الناس،وتقول لهم واحداً واحداً:احبوا بناتكم،احبوا اولادكم.
النرجس يذبل سريعاً،لكنه لايُنسى ابداً.
(الدستور)