تسعة عقود إلا قليلاً... عمر كاف لاختبار معادن الرجال. قلة من الناس هم من ينزعون بوعي عن هذا العمر صفة «أرذله»... بالصمت أعار حيدر عبدالشافي تلك الصفة الى زماننا ورحل.
لغزة الحزينة ، والصائمة قسراً ، أن تمعن في حداد يليق بها وبه... ولها أن تعلق رايات «حزن مقهور» على «جميزها ونخيلها»... فالرجل سنديانة عربية ، ظلت في أرضها ، دون ان ينخرها سوس أو عفن او وهن.
هو من عرف كيف يمكن للقائد والمكافح أن يحمي ذاته واستقلاله ، بالعيش بين الناس ولهم ، ودون أن يفقد القدرة على «المبادرة» حين يحين موعدها.. لم تفقده المرحلة الناصرية رصانته... فحين انحسر الحكم العسكري المصري عن قطاع غزة لصالح تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية ، بقرار من الجامعة العربية تولى الرجل رئاسة أول مجلس تشريعي مطلع الستينات في قطاع غزة.
قد يكون من التقليدي تعديد مناقب الرجال حين يرحلون... غير أن ما هو أهم ، هو تذكر قدرة الرجال على الحفاظ على هذه المناقب في الأزمات القاسية... والقسوة هنا ، تأتي من تبدل القيم والمعايير... وما أصعب ذلك حين يكون التبدل متصلاً بمصائر الأوطان والشعوب.
من هنا تأتي قيمة الرجل ، المولود قبل تسعة عقود في زمن الدولة الفيصلية الموحدة لأراضي الديار الشامية كلها... فمغادرة الحياة العامة تعفي الرجال من أقدار تحتمل الكثير... أما الإصرار على البقاء بين الناس ، وتحمل همومهم ومصائرهم ، والقدرة على المبادرة وحمل المسؤولية باسمهم ، فأمر أقل ما يقال فيه أنه عسير ، خصوصاً في بلادنا المنكوبة بأرزائها... وما هو أقسى من ذلك أن تصر على البقاء نظيفاً: عفيف اليد والضمير واللسان...
قد يتحمس الى قيادة الناس وتزعمهم... وقد ينجحون. ولكن يصعب عليهم أن يتراجعوا بعد أن يعلقوا.
وقد يدمن الكثير أضواء الاعلام والثرثرة فتستعصي عليهم عتمة الحياة العادية ، فلا يصمتون إلا قسراً.
القيمة الأهم للراحل عبدالشافي هي أنه تراجع وانسحب حين كان يصعب التراجع... وآثر الصمت ، حين كان كل شيء يدفع الى الثرثرة.
للرجل الرحمة ، ولأهله السلوان... ولنا أن اردنا أن نتعلم منه فضيلة الصمت والعفة... فهذا رحيل يشبه رحيل بحر(،،)