فبعد أن يصوت مجلس التعليم العالي على مرشح اللجنه المنتظر لتولي زمام الأمور في جامعة معينه، يكون الترقب لافتاً للناظرين! وتكون الصحف والمواقع الإلكترونيه تتداول خبر صاحب الحظ السعيد!! وتشد الرحال إلى ما نصب من بيوت أعدت للمهنئين من المدائن منتشرين!!! فتكون اللحظة التاريخيه قد وصلت للدار التي أنيرت بالمستقبلين... ويتسلم الشخص المنظور ما وعد به من جنات الخلد في دار النعيم المقيم: جنة المأوى في دار الدنيا مصورة للقارئين... فيكون هذا الرئيس مديناً لكل جبار مكين، ممن أوصلوه للكرسي المتين، من كل عين ونائب بالمصائب مبشرين، وللوزير الوعد بالمنصب العتيد بعد أن يكون الوزير قد غادر جنته هو وهبط مصراً بعد حساب أليم، بعد الفضيحة والخزي المشين.. وجيء يومئذ بالحقائق على رؤوس الأشهاد محملين.
فهل نكون قد وضعنا الشخص الصحيح في المكان المرقوب؟ أم هل نكون قد أنكرنا ضمائرنا لما أتينا بالقرار الأثيم؟ بكل تبرير وتسويف مشين؟؟ وهنا يكمن اليوم الذي يحدد فيه هل نحن صواب أم نحن آثمون! فإذا كان الإختيار قد سوي حسبما يمليه الضمير فروح وريحان وجنة نعيم... وأما إن كان القرار قد لعبت فيه الأهواء وادعينا تأثير الضاغطين وتلاعبنا بمصير الآخرين فشجر من زقوم وتصلية جحيم.... جحيم الدنيا الذي هو أشد وطأة لذوي الألباب من المفكرين!!! الذين خانوا الأمانة لما قدمت لهم ثقة ولي الأمر من المسؤولين عندما أتوا إلى مناصبهم على كل ضامر ومن كل فج عميق!!! طاعنين القيادة من ظهر بما قدمت أيديهم من أكاذيب وتئآويل!! لقاء ما تلقوه من نعمة كانوا لها ناكرين! فانطبق عليهم المثل الماثل "إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا"! فأتوا إلى أعتاب مكافحة الفساد ناظرين يؤدون العمرة محملين بأطعمة الفضائح ومن زمزم روح الخل لذة للشاربين متمتعين بها إلى حِجةٍ طال انتظارها لا تكاد تنتهي حتى تفتح لهم طريق غيرها، وهم لها سالكون! وبالذكاء المزيف هم مخدوعين بأن الآخرين صدقوهم معتقدين بأن ما اقترفته أنفسهم من اثم إنما انطلى على الناظرين!!
فما أن يصل الرئيس المعين إلى كرسيه حتى تأتيه العبي من كل حدب وصوب محملة بالواسطات والجمائل بما أوصلوه إلى هذا العز من متاع الدنيا فهو لهم من الشاكرين... فهو يعين هذا المراسل وينقل تلك السكرتيره ويقبل هذا الطالب ويحول ذاك الطالب إلى تخصص آخر، وهو يبتعث المبعوثين ويعين المتشرذمين، جزاءاً وقربانا لما قدم له من كرم الضيافه من مزرعة المتوسطين!! فهو مدين لهم إلى يوم الدين وهو لا ينكر لهم جمائلهم بما أوصلوه لما هو فيه، ويبيت منكراً في الوقت نفسه ومن دعموه المؤهلات الحقيقيه للمنافسين... ويبقى مترقباً للساعة التي تُنهى فيها خدمات الوزير من أولي النعمة من المانحين لكي يقدم لهم بدوره مردود الجميل مما تلقاه من فضل المنصب الذي هو فيه، لكي يعيده سيرته الآولى فيبقى هو التابع لذاك الوزير إلى يوم الدين!
لقد آن الأوان لكي نقول "لا" لكل المتوسطين من نائب وعين ووزير ليس لهم من التعليم العالي سوى من سمعه غيرهم من وسائل الإعلام والصحف وما شابهها... لقد حان الوقت لكي نحرر التعليم العالي من مثل هذه القيود التي لا زالت تدق المسامير في نعشه دون أن نعي ما نحن صانعون!! لقد آن الأوان لأن نستمع لناقوس الخطر الذي بات يدق ونحن عنه غافلون، وما استقالات رؤساء مجالس الأمناء في الجامعات، ورؤساء لجامعات مشهود لهم في العطاء والإخلاص، سوى أعراض لمشاكل مستعصيه آن لولي الأمر (من القيادة) التدخل شخصياً والإشراف على حلها، فنحن لا زلنا مراهقين في حرصنا على بناء مجتمع متماسك قادر على بناء الأجيال القادره على حمل الرساله إلى أبعاد تفوق قدرتنا على إدراكها؛ في الوقت الذي وصلنا فيه الكهولة من شدة حرصنا على تحقيق المصالح الذاتية الضيقه البعيدة عن تحقيق الصالح العام...
إلا أنه يجب أن لا نلوم نوابنا وأعياننا ووزرائنا، فالمجتمع الغير ناضج لا يقدر على إفراز مجالس للنواب سوى تلك التي قصد المجتمع من انتخابها تحقيق مصالحه الآنية الضيقه... فانتخب النائب الأمي، والنائب الأناني والنائب الذي لا يمتللك من مقومات النيابه سوى الإسم الذي لم يجد له بداً سوى القبول به عندما عرَفناه لهم على هذا النحو!! ثم لا نجد في أنفسنا حرجاً من انتقاد المجالس هذه التي حولت طبيعة عملها من دور الرقيب على المصلحه العامه إلى أدوار لوبيه تخدم مصالح لأشخاص ومؤسسات بعينها... فدور اللوبيون (Lobbyists) في الدول الديمقراطيه هو شيء منفصل تماماً عن مفهوم النيابيه أو العينيه (كما عُرِفت لنا)، فدور اللوبيون يكون في العادة مقتصراً على الإتصال والتنسيق مع الشبكات ذات النفوذ لإحداث التعديلات والتغييرات في القوانين على نحو يخدم غايات قطاع معين مثل القطاعات الصناعيه والتجاريه، إلا أن النائب والعين في تلك الدول يكون على علم وعلى أتم اطلاع لما يحبكه اللوبيون ويفعل كل ما بوسعه لمنع تطاول أي تعديل قانوني على الأمور المتعلقه بتحقيق المصلحه العامه. إلا أن ما يفعله اللوبيون في بلدانهم (على عكس ما نرى من نواب الأمة ما يفعلون) يصب أيضاً في خدمة أوطانهم وإن كانت الجهود تبدو للعيان لأول وهلة على أنها تحقق مصالح إحدى القطاعات الإجتماعيه...
لقد آن الأوان لأن نطلب من آولئك اللوبيين (بالمفهوم المحلي) والوزراء المتطاولين بأن يكفوا أيديهم عن التدخل في شؤون التعليم العالي والجامعات من خلال الواسطات التي دمرتنا لعقود وعقود في التعيين والقبول والإبتعاث وغيرها، لكي نترك المجال لآولئك النفر من الناس الذين تتوفر فيهم من صفات المعرفه والإنتماء ما هو مطلوب لتحقيق خطى الإصلاح التي طال انتظارها، ونقول لآولئك النفر المخلص من الناس الذين أنهوا فترات خدمتهم في الجامعات في مناصب مفتاحيه "كفوا عن التدخل في أمور الجامعات التي ورَثتم إدارتها لغيركم فلعل غيركم تكون لديه أفكارٌ في التغيير لم تكن متوفرة لديكم فيما مضى"! وكفى مراهنة على فشل آولئك النفر من الناس الذين حاولتم منعهم من الوصول للمناصب فوصلوا إليها من طرق أخرى، لعل يكون في مجيئهم الخير الكثير الذي يعود علينا بالمنفعة التي نصلح بها أحوالنا، التي لم تكونوا على جلبها من قبل بقادرين! ففي الوقت الذي يراهن فيه في الغرب على النجاحات وتظافر الجهود ودعم الخارجين من المناصب للداخلين نراهن من دوافع فشلنا على فشل الآخرين بل نقدم كل الجهود التي من شأنها إحباط أطماح الناجحين!!!
إن الأمر ليستحق وقفة صادقة من كل صاحب لب وضمير أصيل لكي ندرس المطلوب فنعيد للأمور سيرتها الآولى لَمَا كان للتعليم دور في بناء أجيال الآباء والأجداد الفالحين، ونبعد كل صاحب مصلحة ليسجل في غياهب التاريخ تائهين، ونفتح الباب لكل صادق أمين على المصلحة العليا حريصين، ونحسن اختيارنا في انتخاب كل نائب أمين على مصلحة الأمة قائمين، ونتمسك بكل حريص على مصلحة الوطن من التاركين، لنبدأ مسيرة البناء من جديد في بناء الأوطان وإخراج جيل الرجال من المخلصين..