تنتاب الكثيرين, خيبة أمل, من أن الثورات العربية لم تنجح في إحداث التغيير الجذري, الذي تأملت به الشعوب العربية قبل عام, خاصة وأن نفوذ أمريكا, لا يزال واضحا, سواء في السياسات العربية,أو في قوة تأييدها للأجندة الإسرائيلية.
خيبة الأمل مفهومة إذ أن النتائج لم تصل إلى حد التوقعات والطموحات الشعبية.
لكن هذه الثورات لا تزال, من منظور تاريخي, في أولها; فهي ليست انقلابات عسكرية, بل انتفاضات شعبية تهدف إلى هدم نظم سياسية أرست جذوراً قوية, من خلال مزيج من السطوة الأمنية القمعية وربط فئات مجتمعة بالسلطة السياسية, ولكن مع تشقق النظام الاقتصادي الريعي, بتأثير غزو النظام العالمي الرأسمالي,الذي اشترط تقليص قدرة مؤسسات الدولة على التوظيف وخلق فرص العمل, إن كان من خلال خفض عدد الكوادر والنفقات أو بفعل عملية الخصخصة, فان هذه الأنظمة فقدت قطاعات واسعة من قاعدتها, التي ثارت عليها ونادت بتدميرها.
عملية الهدم, وإن كانت صعبة, وذلك يبدو واضحاً من شراسة مقاومة قوى الأنظمة المتداعية للتغيير, تبقى أسهل من عملية البناء, التي تعتمد على الكثير من العوامل, أولها الوضع الاقتصادي ومن ثم الوضعين الإقليمي والدولي.
الثورات, والاحتجاجات, اصطدمت بقوى إقليمية ودولية مبكراً, وان كانت هذه القوى قد فوجئت بانتفاضة الشعوب, لكنه استطاعت, وبسرعة التكيف, والدخول على خط الثورات, ومحاولة التأثير على مسارها.
نقول أنها حاولت, واستطاعت النجاح, في بعض المرات, ولكنه من غير الدقيق الاستنتاج بأن القوى الإقليمية والعلمية أصبحت تقود هذه الثورات, لأن التدخل الخارجي لن يستطيع تلبية الطموحات الشعبية وسيواجه بالغضب الشعبي, فالذي يحصل الآن يختلف عن ما كان يحدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي, من انقلابات هندستها أو اخترقتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية, متوارية خلف شعارات ثورية معادية للاستعمار.
بالطبع لا يمكن التقليل من خطر التدخل الخارجي في الثورات , ولا بد من التنبيه له وفضح تجلياته المختلفة, ولكنه أصبح أكثر انكشافا, وبالتالي من الخطأ التسليم بهزيمة الشعوب العربية, الذي يصل إلى حد إنكار دور هذه الشعوب في انتفاضاتها.
اصطدام الثورات بالتدخل الخارجي, ليس جديداً على تاريخ المنطقة أو حتى العالم, وأشكال هذا التدخل ليست مستغربة, و لا تقل خطورة عن سابقاتها التاريخية, ولكن يجب فهمها جيدا لمواجهتها, من دون الانجرار إلى الاستنتاج بأن الثورات أمريكية وبالتالي تجاهل التضحيات الشعبية المستمرة.
كانت بواكير التدخل الخارجي اقتصادية, إذ أن معظم الأنظمة كانت مدينة للدول الغربية أو للمؤسسات المالية العالمية, فهرع ممثلو الأطراف الدائنة , دول ومؤسسات, إلى تونس ومصر, فورا في محاولة ليس فقط لتثبيت هذه المديونية, بل لخلق ارتباطات مالية جديدة, مستغلة وجود بعض أركان النظام القديم في الحكم (بالأخص قبل الانتخابات في تونس) واستمرار المجلس العسكري على رأس السلطة.
الواقع الأخر الذي اصطدمت به الثورات العربية, هو عدم حدوث تغيير في الأنظمة الغنية المتحالفة مع واشنطن, والتي وجدت فرصة ووسيلة للحفاظ على نفسها, من خلال "دعم الثورات" ماديا وسياسيا , مستغلة فقر بلاد الثورات, وحاجتها إلى الاعتراف الإقليمي والدولي بها, تدخل هذه الدول, ونعني بها دول النفط, أصبح مدخلا لحماية أنظمتها, وبعث رسالة للغرب, بأهمية دورها المؤثر وقدرتها على التأثير بتشكيل الأنظمة الجديدة وعلى مسار الأنظمة القديمة الخائفة من ثورات تطيح بها.
يبقى أن الكثير من المخاوف ما تردد من أخبار عن, ومؤشرات على, تفاهم أمريكي مع الحركات الإسلامية , سواء التي اكتسحت الانتخابات البرلمانية أو غيرها. هذه المخاوف مفهومة, ولكن يجب أن لا تقتصر على الحركات الإسلامية, بل على عدد من الحركات العلمانية, التي سعت وممكن أن تسعى إلى تفاهمات ضارة ومضرة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
وبعد فأن الحذر مطلوب وضروري, والحل يكمن في استمرار الثورات والاحتجاجات المبنية على وعي وفهم لحقوق المواطنة ومتطلبات الاستقلال الوطني, وعدم الانجرار إلى العصبية العشائرية والطائفية, التي هي أهم أهداف التدخل الخارجي, والإبقاء على بوصلة مرتكزة على الموقف من القضية الفلسطينية, إذ يهدف التدخل الغربي إلى فرض التطبيع, أو تمتين التطبيع مع إسرائيل, وعلى إرساء أسس المشاركة السياسية, والمساءلة الشعبية, والأهم من ذلك العدالة المجتمعية, إذ أن التدخل الغربي يسعى ألإبقاء على سياسات اقتصادية, وإن كانت قد أثبتت فشلها في تحقيق الأمان المجتمعي في الغرب,إلا أن لا تريد الدول الغربية من الشعوب التخلي عنها, لأنها تدر الأرباح المهولة لفئة الواحد بالمئة, المستفيدة من خيرات العالم.
(العرب اليوم)