ربما كانت السمة الغالبة على عصرنا هذا هي تتابع فيوض الاخبار في كل دقيقة من ليل او نهار، وازدحام آناتهما بما تبثه وكالات الانباء ومحطات الفضاء على نحو قد يظن المرء معه انه ما من صغيرة ولا كبيرة في الارض الا وهو قادر، ان هو جدّ في المتابعة، على ان يكون ظاهراً عليها او على خُبر بمصادرها ومواردها، وهو وهم فادح، او جهالة متعالمة، او غرور، او اغترار، او ما شئت من نعوت، لما يستنيم اليه من الركون الى اقوال طائرة، او صور خادعة، ولما ينطوي عليه من سذاجة التصديق لكل تلفيق، وقديماً قال ابن خلدون «ان الاخبار اذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم اصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والاحوال في الاجتماع الانساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيْد عن جادّة الصدق».
واذا كان ابن خلدون قد اخذ على بعض كبار المؤرخين والمفسرين وائمة النقل وقوعهم في المغالط في الحكايات والوقائع «لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً او سميناً (او مفبركاً كما نرى ايامنا هذه في فضائيات الفتنة).. لم يعرضوها على اصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الاخبار».. اذا كان ذلك من ابن خلدون في زمانه فكيف سيكون منا اليوم نجاة من المغالط والتوهمات وقد يأتينا في الدقيقة الواحدة مئات الأخبار التي يحتاج تمحصيها الى زمن مديد، ولا نعلم صادقها من كاذبها، ولا أي غايات لناقلها، بل نأخذها بسذاجة الطفل الغفل، ونترك لمدلولاتها ان تفعل فعلها فينا، فتدفعنا في اتجاه دون اتجاه، وتذهب بنا مذاهب شتى من الانفعال، تحزباً او اقتتالاً او انسياقاً وراء ما يزخرفه لنا المتربصون بنا، او انتحاراً، او ما شاءت لنا الغفلة من فنون الجنون..
ان وسائل الاعلام المعاصرة ذات قدرة واضحة على تلفيق صورة كاذبة لما هنالك من وقائع، فهي تركّب مشهداً يوافق مآرب القائمين عليها وتقدمه في ايقاع بالغ السرعة يظل المتلقي ازاءه ذاهلاً متلدداً، وقابلاً لأخذ أي تحليل مصاحب للمشهد مأخذ التصديق، دون ان يخضعه لأي نوع من التحقيق والتدقيق، او ان يواجهه بمسكة من منطق، ولعل هذه «اللعبة» ان تكون وراء كثير مما نشاهده اليوم من تدافع وتغلب وتفان (من الفناء) في المعمورة العربية التي يراد لها ان تكون صعيداً زلقاً..
نزيد على ذلك ان ثمة مراكز ابحاث، واكاديميات، ودوائر استعمارية ناشطة، مكتظة بالمختصين في سيكولوجيا الجماهير او في علم نفس الشعوب، وان ذلك كله مسخّر لدفع العرب الى مضائق مهلكة تستبقيهم في ضعفهم وتخلفهم وانقسامهم، وتمكّن الصهيونية ومن يظاهرها بالاثم – الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا مثلاً – من القبض جملة على ازمة امورهم..
على اننا لا نلوم اعداءنا المتربصين بنا على ما يُبدئون ويعيدون في الكيد لنا وفي اقتحام اوطاننا وعقولنا على حد سواء. ولكننا انما نلوم انفسنا لما نحن عليه من غباوة في مواجهة هذا الاستغفال ذي التقنيات المتقدمة، مع علمنا المسبق بما يريدون، وأي الوان الهلكة لنا يُهيئون..
ثم اننا، مع ذلك كله، وعلى الرغم من ذلك كله، لا نستيئسُ ولا نقنط، ولا يدركنا الحبوط، فثمّ (او فثمة ان اردتم) علائم ودلائل كثيرة على ان فينا طوائف من المستنيرين ذوي العقول والابصار، او ممن لا تخدعهم مخاريق الاعلام، او تلفتهم عن حقائق الاشياء، وان هؤلاء في ازدياد، وان بهم الأمل وعليهم التعويل في صحوة العباد من هذا الرقاد..
(الرأي)