عام على الثورة .. تونس على مفترق طرق
رنا الصباغ
29-01-2012 03:08 AM
عمون - تونس - رنا الصباغ – نجحت حركة النهضة الاسلامية في توظيف مخرجات الثورة التونسية بعد عقود من القمع وما أعقبها من انتخابات وتشكيل حكومة غير مسبوقة في تاريخ هذا البلد بقيادة رجلها الثاني حمادي الجبالي. لكنها تواجه اليوم تحدي الجلوس على مقاعد السلطة، غموض مواقفها والخلط بين مفهومي قيادة حزب وإدارة دولة لخدمة فئات الشعب كافة.
من هذا المنطلق، تمثل قيادة تجربة التحول التونسية بالنسبة لنهضة نعمة ونقمة في آن. نعمة السلطة بعد أن ذاقت الأمرين سابقا على يد الرئيس المطاح به، بوصولها إلى الموقع التنفيذي الأول بعد تقليص صلاحية رئيس الجمهورية المنصب الذي منّت به النهضة على حليفها القومي اليساري المنصف المرزوقي، الذي عاد من منفاه الاختياري اربعة ايام بعد رحيل بن علي. ونقمة لأن الجلوس خلف عجلة القيادة ومواجهة أكوام التحديات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية واستعادة هيبة الدولة يتطلب خبرة سياسية وإدارية قد لا تكون موجودة في صفوف حزب تعود أن يعارض، لا أن يحكم ويوفر حدا أدنى من التوافق الوطني والمجتمعي.
فالنهضة اليوم تحوم تحت رادار المساءلة الشعبية والنخبوية بعد ان وظّفت رغبة العديد من التونسيين في القطع مع تجربة حكم نظام زين العابدين بن علي، الذي خلعه شعبه قبل عام بحركة عفوية مفاجأة.
المجتمع الدولي يراقب تجربة دخول ما بات يسمى ب"الاسلام المعتدل" الى السلطة في دول التحول العربي بعد أن وفرّت رياح التغيير فرصة صعود هذه التيارات غير المجربة من خلال صناديق الاقتراع، في ما يشبه رفع الضغط عن زنبرك مشدود.
حركة النهضة الاسلامية في تونس حصدت 40 في المئة من مقاعد المجلس التأسيسي الذي انتخب أواخر تشرين أول/ أكتوبرالماضي من أجل صوغ دستور الجمهورية الثانية. وعليها التعامل اليوم مع تبعات ملحة لكنها قد لا تكون مؤهلة لتوليها، بخاصة انها لا تستطيع احتكار شرف تمثيل شرعية الثورة.
ذلك أن معادلات النسب والأرقام تفيد بأن من انتخبوا النهضة لا يزيد عن 20 في المئة من التونسيين. والمتبقون إما أنهم لم ينتخبوا - حال 49 في المئة من المنكفئين - وإما انتخبوا أحزاباً أخرى، وهم يمثلون نحو 30 في المئة. أصوات كثيرة هدرت بفعل تنافس 1600 قائمة انتخابية على 218 مقعدا في 33 دائرة، في بلد نشأء فيه 116 حزبا بين ليلة وضحاها في ظل غياب ثقافة سياسية.
اليوم تطل الحكومة الانتقالية على جبال من التحديات تتطلب معجزة، بعيدة المنال إضافة الى التحضير لإجراء انتخابات تشريعية و/او رئاسية بعد وضع الدستور ضمن مهلة سنة، كما نصّ عليه اتفاق الاحزاب الرئسية قبل الانتخابات.
أمامها الآن مهمة إنقاذ الاقتصاد المتهاوي بنسبة نمو سلبية، حتى يتماشى مع أجواء التعددية بعد عقود من حكم شمولي مغلق.
أعداد العاطلين عن العمل وثلثهم جامعيون، تضاعفت ثلاث مرات من 300،000 إلى نحو مليون خلال عام، وسط تراجع أداء غالبية القطاعات لا سيما السياحة – أهم روافد الخزينة. أجهزة الدولة عاجزة عن استيعاب موظفين جدد، بحسب ارقام رسمية وخبراء اقتصاد ومال. نسب النمو الاقتصادي المتوقع لهذا العام تبقى دون 0.02 %. منذ بدء الثورة، أغلق أكثر من 100 مصنعاً أبوابه وسرح المئات من العمال. السياحة شبه متوقفه. وزاد الجرح إيلاما عودة جلّ التونسيين العاملين في ليبيا المقدّر عددهم بـ600 الف عقب حمامات الدم هناك، بينما تلقي الازمة المالية الاوروبية بظلالها على الاقتصاد التونسي المجاور، خصوصا وان 80 % من مبادلات هذا البلد مع اربع دول اوروبية كبرى.
سياسيا، تلف المشهد الداخلي تعقيدات ليست أقل خطورة.
الحزبان اللذان تحالفا مع حركة النهضة ليشكلا معها أكثرية حاكمة - المؤتمر من أجل الجمهورية (29 عضواً في المجلس التأسيسي) والتكتل الديموقراطي من أجل العمل والحريات (20 عضواً في المجلس التأسيسي) – يشهدان الآن تفجر أزمات داخلية، قد تمهد لانشقاقات اعتراضا على اللحاق بالنهضة. الفروق الايديولوجية كبيرة بين الأحزاب الثلاثة وقد تطفو للسطح عند أول تحدي داخلي او خارجي.
اصرار النهضة على الاستئثار بالحصة الاكبر في الحكومة وتركيزها على تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة الوزير الأول (رئيس الوزراء) أغضب العديد في الحزبين المتحالفين معها في المجلس التأسيسي وفي الحكومة.
اليوم تجهد أحزاب يسارية وتقدمية لبناء جبهة موحدة قبل خوض الانتخابات النيابية القادمة لصد اكتساح النهضة أو محاولة الاستئثار بأصوات كثيرة من أتباع الحزبين المتحالفين مع النهضة. وهذا يولد أنطباعا بأن الحزبيين طلاب سلطة وتقاسم كعكة المصالح والنفوذ بالاعتماد على المحاصصة بدل الكفاءات.
في فترتها الانتقالية الثانية، تحكم تونس اليوم ترويكا من ثلاثة رؤساء؛ الجمهورية (المرزوقي) والمجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر والحكومة (الجبالي). وهي تبدو غير قادرة على طمأنة النخب الاقتصادية والسياسية أو المواطن البسيط الساعي إلى رزق يومه.
جاءت التشكيلة الحكومية بما تمثله من صراع بين مكونات الائتلاف ومكاسب للنهضة بالحقائب السيادية والخدماتية ( 19 وزيرا من اصل 41) بما فيها وزارات الخارجية، الداخلية، العدل، التعليم العالي، والشؤون الدينية)، مع ضآلة تمثيل الشريكين الآخرين لتضاعف المخاوف وتوقظ حركة اعتراض واسعة. بعدها ثارت موجة من الاحتجاجات بعد تعيين الحكومة مدراء تحرير على رأس المؤسسات الاعلامية العامة دون استشارة الحزبين الحليفين ما آثار موجة ثانية من الاحتجاج قدتها نقابة الصّحفين التونسيين. كما طالت الحكومة انتقادات واسعة جرّاء موقفها المهادن والمجاري للسلفيين، كما تجلى في موقف وزارة التعليم العالي حيال أعتصامات كلية منوبة، ومن أحداث أخرى سجلت في انحاء البلاد وشكاوى منظمات حقوقية وسكان بلدة "سجنان" في محافظة بنزرت من محاولة أكثر من 50 سلفيا تنصيب أنفسهم على إدارة شؤون السكان المحليين، في إطار "إمارة سلفية". وانتقدوا أيضا تهاون الحكومة مع ما بات يسميه معارضو الحركة ب "ميليشيات النهضة" التي تواجه تحرّكات الأحزاب الأخرى أو منظمات المجتمع المدني المناهضة لسياسات الحكومة.
رئيس النهضة راشد الغنوشى - الذي عاد من المنفى بعد الثورة - فضّل البقاء خارج أي منصب "دنيوي" في هرم السلطة. فتدبير شؤون الحياة والحكم قد تجلب مساءلة غير مرغوبة. لكنه يتدخل بوضوح وكأنه يحتل منصب "المرشد" دون مهمات وصلاحيات واضحة. تارة تراه يسافر الى واشنطن (في ست مناسبات) لطمأنة الإدارة الامريكية بعدم وجود تفكير في تغيير سياسة تونس الخارجية أو علاقتها بالولايات المتحدة الامريكية أو طريقة إدارة الاقتصاد. وتارة يقف إلى جانب الترويكا في مناسبات رسمية مثلما حصل خلال احتفالات ذكرى الثورة الاولى (17 ديسمبر 2011 بمدينة سيدي بوزيد). أصر الغنوشي على تعيين صهره رفيق عبد السلام الذي يحمل الجنسيّة البريطانية وزيراً للخارجية. بصرف النظر عن خبرات عبد السلام وكفاءته، ينظر إلى هذا الرجل باعتباره محسوبا على قطر، التي تتحول تدريجيا الى شريك استراتيجي على حساب علاقات تونس التقليدية مع أوروبا – الجار الاقتصادي والاجتماعي القريب والمؤثر في انتاج قيم الحداثة. كما أصر- وبعكس رغبة المرزوقي- على توزير اعضاء المكتب التنفيذي للحركة بمن فيهم علي العريض كوزير الداخلية.
قبل أيام خرج الجبالي عن صمته ليتعهّد بفض اعتصام كلية منوبة، بعد اتهامات بتواطؤ حكومته مع السلفيين.
وهكذا ندد بالاعتداء على صحافيين وحقوقيين لدى محاكمة نبيل القروي، مدير تلفزيون نسمة لعرضة شريط "بريسيبوليس"، الذي اعتبر مسا بالذات الالهية. ووعد الجبالي ايضا بتطبيق القانون على التحركات والاعتصامات التي باتت تهدد هيبة الدولة وتتسبب بخسائر مالية للاقتصاد وتعوق حراك الناس.
لكن رغم كل هذه المتغيرات والسلوكات لا يبدي التونسيون قلقاً على هوية مجتمعهم بفعل وصول النهضة إلى الحكم. فهم يبدون ثقة بقوة القيم العلمانية المترسخة منذ اعلان الجمهورية سنة 1957. كما يتفهم بعضهم تحذيرات الحكومة من ما تسميه بـ "ثورة مضادة" يحركّها أنصار النظام القديم الساعين للعودة الى الوراء، وأحزاب يسارية هزمت في الانتخابات الاخيرة. بالاضافة لذلك لا يعتقد التونسيون أن النهضة ستغامر بتعريض هذه القيم التونسية للنقاش، أقله في هذه المرحلة. لكنهم يقرّون بمخاوف من أن تحاول النهضة تطبيق الإسلام السياسي بالتدريج على طرفي معادلة المجتمع من القمة الى القاعدة، عبر العمل من داخل مفاصل إدارة الدولة او بتشجيع جماعات سلفية لفرضه على المجتمع.
الاحزاب المعارضة للتحالف الثلاثي الحكومي وممثلو المجتمع المدني يتحركون في الشارع لصد كل ما لا يعجبهم من تصرفات الحكومة او النهضة وغيرهم لأنتاج دولة غير مدنية. وسيتعمق النقاش لدى طرح فصول الدستور القادم على المجلس الوطني التاسيسي لجهة تحديد اولويات الوطن. بالتحديد تلك البنود المتعلقة بطبيعة النظام السياسي القادم وبإقرار الحريات الفردية والعامة، بعد حسم جدل هوية الدولة عربية إسلامية، في إطار التوافق على إبقاء الفصل الأول من دستور 1959.
العديد من وسائل الاعلام التي تشكلت في تونس الجديدة – 83 ترخيص لأنشاء صحف دورية، ست إذاعات إف إم خاصة وخمس قنوات تلفزية - تحاول ممارسة دورها الرقابي. وتسعى الأحزاب الخاسرة في الانتخابات إلى لملمة جراحها عبر الانصهار في حزب واسع أو تشكيل جبهات متجانسة.
النهضة تنفي كل هذه المخاوف المشروعة.
وتقول إنها تعي بأن الوصول للسلطة يشكل تحديا كبيرا لها. ذلك أن احتمالات الفشل كبيرة ما لم تعمل على تحويل التحديات الداخلية والخارجية إلى فرص سانحة.
فهل تنجح النهضة في كسب رهان مناصريها القدماء والجدد في التأسيس لتونس جديدة على أسس الدولة المدنية، الحاكمية الرشيدة تحترم التعددية الحزبية، أم ستتحول إلى دكتاتور بوجه جديد تحت تأثير حرارة كرسي السلطة وإغراءاته؟