عالبال بعدك يا سهل حوران -للمرة الثانية-
أ.د. أمل نصير
24-01-2012 04:25 AM
في مثل هذه الأيام من العام الماضي كتبت مقالا عن سهل حوران وقد أحبه كثير من القراء امتدادا لحبهم لسهول حوران، وتعلقهم بموطن كثير من الأردنيين، ولما لهذا السهل العريق، العبِق بالذكريات الطيبة، من تاريخ مجيد، واليوم، وبعد كل ما مرّ على الأهل في جزء منه في سوريا الحبيبة، وتعاطفا مع الأهل هناك رأيت أن أعيد نشره، ولكن بدعاء جديد له يتناسب وحاله في هذه السنة، فقد كنت ختمته في العام الماضي بالدعاء بالسقيا لهذا السهل العظيم وقد انحبس المطر عنه، ولكني في هذا العام أدعو الله تعالى أن يخلّص أهله مما هم فيه، ويوقف نزيف دمائهم الزكية، وأن يطلع الفجر على امتداد السهل في سوريا الحبيبة، وكذلك في كل أرجائها، وسأبقي على المقال كما هو على النحو الآتي:
شعرت بضيق وأنا أغادر أرض الوطن للمشاركة في ندوة نقدية دُعيت إليها من قبل وزارة الثقافة السورية، وحاولت تجنب ما أنا فيه من شعور سلبي بتأمل سهول حوران، وعندما يمر الساري في ربوع حوران لا بدّ أن يتذكّر أغنية (يومٍ على يوم)، ويدعو بالرحمة لمغنيها صاحب الصوت الأصيل فهد بلان، ويدعو بطول العمر لكاتب كلماتها وملحنها سعدو الديب، ويستذكر معهما هذه الكلمات الجميلة:
يومٍ على يوم لو طالت الفرقة
ما نسيت أنا يوم، ما نسيت أنا الرفقة
عالبال بعدك يا سهل حوران...
شرشف قصب ومطرز بنيسان ....
عرسك صبايا، ولمّتك خلان.....
واني غريب أسأل عن الرفقة
عالبال بعدك يا سهل حوران...
يحرم عليّ أبدلك بالغير
ريحة هلي منك يا سهل الخير
بالله لو رحت المسا يا طير
مسي عليهم ... طالت الفرقة
لم تكن حوران رمزا لعزّة أهلها، ولا مصدرا هاما لغذاء أبنائها، ومرعى لحلالهم فحسب، ولكنها كانت ملهمة لمبدعيهم كما في قول أحدهم:
حوران ! ياجزءا ً من السّماء
يا عطرَ ورودٍ
أسْكـَرَتْ برحيقها الدنيا
جناحاها زرقة السماء، وعيناها خضرة الزيتون
أنتِ مهوى فؤادي ومرابع صباي
لا يزالُ حنيني إليك
ترنيمة َ قلبي
فيك أسمو فيشمخُ الزمنُ بداخلي
فيا ربيعي المزركشَ بألوان ِالحياة
ويا صيفي الذي يذيبُ صقيعَ تجاربي
ويا خريفي الذي يعرِّيني من أوراقي الصفراء
ويا شتائي الذي يزرع الحياة في أغصاني الراقدة
إن لم تكوني
فلمن يغني الياسمينُ
أنتِ في قلبي بحرٌ سرمديٌّ
لا جزيرة َلهُ ولا شطآن
أشمخُ وأنا أحملُ جوهرتي في قلبي
أعبدُ اللونَ الأخضرَ في عينيك
يحلو لي الضياعُ في مساحاتِ خـَصْركِ
في حوران يتجسّد ألق المكان، وعبقرية الإنسان، ولعل هذه الآثار الباقية فيها ما هي إلا دليل على ما مر عليها من حضارات أبدعت يد الإنسان في نقشها، ففي سهول حوران الأردنية تربض مدينة أربيلا –إربد- وكانت تسمى بالإقحوانة نسبة إلى زهرة الإقحوان فيها، وقد استوطنتها حضارات عديدة منها الرومانية واليونانية، والعرب الغساسنة، ومدن التحالف العشر- الديكابولوس – الأخرى، ومنها مدينة جدارا وما فيها من آثار إسلامية ورومانية من قاعات فسيفسائية ومسارح وغيرها، وفي الجانب السوري نشاهد مدينة بصرا القديمة عاصمة المقاطعة العربية للإمبراطورية الرومانية، والحاضرة الدينية للإمبراطورية البيزنطية، وقد كانت نقطة توقف على طريق قوافل الحجيج المتجهة إلى مكة المكرمة، أما السويداء، فقد سميت بهذا الاسم لطغيان اللون الأسود البازلتي عليها حيث بُنيت منذ القديم من الحجارة البركانية السوداء، وقد أطلق عليها الرومان اسم( ديونيزياس) أي بلد الخبز الشهي، وفيها عدد من الآثار المهمة، ومدينة شهبا أي روما الثانية التي تشتهر بأنها مسقط رأس الإمبراطور الروماني السوري الأصل فيليب الذي حكم روما بين عامي244-249، وقد خطط المدينة على الطريقة الرومانية، وأقام فيها القصور والمعابد، وأقواس النصر، والحمامات، وبنى فيها مسرحا، وسورا يحيط بها من كل جوانبها، وكان يسعى لجعلها روما ثانية.
ولكن سهول حوران لم تعد كما كانت، فقد غزتها أكوام الحجارة الممتدة في كل من الأردن وسوريا، وحينما يتأمل الناظر إلى حالها لابد أن تجول في ذاكرته محطات مهمة من تاريخ هذه المنطقة، وكيف كانت سهول حوران مخزن حبوب روما، تمدّ الإمبراطورية الرومانية القوية ذات الأطراف المترامية بالخيرات الكثيرة، وتسد حاجتها من القمح، فهذه السهول الخصبة كانت تسمى بأهراء روما، وكانت كذلك سلة غذاء الدولة الإسلامية، وقد بقيت تمدّ أهل هذه المنطقة على مدى عشرات القرون بخيراتها الكثيرة، وهي لم تخذل اليد التي امتدت لحرثها وزرعها أبدا، ولم تذهب قطرات الندى التي نزفت من جباه رجالها ونسائها دونما طائل، مثلما لم تذهب دماؤهم الزكية التي أراقوها دفاعا عنها جيلا بعد جيل دون مقابل. فقد كانت حوران مصدر رزقهم، وصورة لانتمائهم الوطني؛ أما الآن فقد تراجع الإنتاج الزراعي فيها، وانخفضت مساهمته في الناتج المحلي إلى أقل من 3 بالمئة من الناتج المحلي.
لم تعد هذه السهول الجميلة ممتدة ومخضرّة فقد تآكلت، ولم يبق منها إلا القليل، وحتى هذا القليل أصبح جافا متعطشا لقطرات الماء، فقد انحبست عنها مياه الأمطار هذا العام مدة طويلة، مما يثير الحزن في القلب، ويلهب اللسان بالدعاء، فحوران يا ربي عطشى أغثها، ولا تحرمها نعمة المطر، فما زال أبناؤها رافعين أيديهم إلى عليائك يدعون: يا رب، غيثك يا ربي، فاسقِهم يا كريم هم وسهولهم، فهم ما زالوا ينتظرون شآبيب رحمتك. ورجال حوران ونساؤها ما زالوا يحملون بذارهم ينتظرون غيثك، لم ينقطع أملهم من نزول هطلك عليهم يوما، وهاهم أطفالهم يمدون أيديهم الصغيرة البريئة يستسقونك، فاسقهم يا ربي سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وأعد لحوران بهجة ربيعها، وخرير مياهها، وألق مكانها، وشموخ زمانها، وعزيمة أهلها، اللهم آمين.