برد يسلع الجسد ويخترق العظم لكنه مقدور عليه رغم ان تكاليف التدفئة اضعاف تكاليف الضروريات الحياتية واليومية، وبرد آخر لا سبيل الى النجاة من صقيعه، انه برد الروح، وقشعريرته السرية هي من الشعور بالوحشة, والمناخات القاسية تختبر منسوب الدفء أو البرودة في العلاقات الانسانية، لهذا تتقارب المقاعد في مقاهي الشتاء وتشتد الحاجة الى الآخر، كأن الانسان يختزن في عالمه الباطني ذكريات موغلة في القدم عندما كان يحاول ان يتهجى ظواهر الكون ليجد تعليلاً لها.
وقبل ان أشاهد فيلما تسجيلياً عن طائر البطريق الموشك على الانقراض كنت أتصور أن قصة تشيكوف الشهيرة عن الحوذي وحصانه هي ذروة ما صوره الإنسان عن الشعور بالبرد والوحشة.
في تلك القصة يحاول الحوذي ان يكلم اي انسان عن حزنه لما فقد ابنه فلم يجد أحداً يسمعه غير حصانه، لكن الحصان عبر عن عطفه بأن أخذ يدفىء يدي الحوذي اللتين تعانقانه بما يتصاعد من فمه وأنفه من البخار تحت سماء تتساقط فيها الثلوج في العراء..
فيلم طائر البطريق الذي لا يستخدم اللغة على الاطلاق يُبكي أشد الناس قسوة، فما تبقى من هذه السلالة التي تعيش في القطب المتجمد وفي درجة الثلاثين تحت الصفر تتحول لفرط اقترابها من بعضها الى طائر واحد عملاق، ولأن أنثاه تبيض مرة واحدة في السنة فهي بمعونة الذكر تقضي بضعة أشهر وهي تتدرب على هذه المهمة العسيرة، لأن البيضة اذا لامست الارض، فسدت وحين يفشل الزوجان في الحفاظ على البيضة اليتيمة يتعانقان ويهمهمان بلغة شجية ثم يفترقان الى الأبد، وتلك تقاليد صادقة لمن يشعرون ولو بالغريزة أنهم موشكون على الانقراض.
ان برد الروح له قشعريرات أخرى لا تظهر على مساحات الجلد، وما قاله العرب عن البرد بأنه سبب العلل كلها، فهمناه بشكل قاصر وظننا ان العلل هي جسدية فقط.. ناسين أن علة العلل كلها ذلك الشعور بالوحشة عندما يصدق - قول الشاعر هذا الزحام لا أحد .. أو ما أكثر الاخوان حين تعدّهم!!
ان حالات الوحشة التي بدأت تستبد بالافراد رغم وفرة علاقاتهم وثرثرتهم التي لا تنقطع بالموبايل أو الانترنت لا تحتاج الى علماء نفس لتحليلها، فهي ببساطة نتاج ثقافة الأقنعة، وتزوير الذات بعد تقديمها صورة مؤقتة، تماما كما لو أن الفرد يعدّ نفسه لالتقاط صورة..
واضح الآن ان الناس بدأوا يهربون من بعضهم لأنهم هربوا من أنفسهم أولاً، فالفقير يطلي فقره بالمكياج بدلاً من أن يشهر سيفه كما قال ذلك الصحابي الأمين، وسبب هروب الناس من أنفسهم معروف، لأنهم غير منسجمين معها، بل يخدعونها ويكذبون عليها حتى يصدقوا ما كذبوا به، أما سبب هروبهم من بعضهم فهو الخوف من اكتشافهم مُتلبسين بالكذب لأن عمر التمثيل والادعاء لا يدوم طويلاً ومهما بلغت تكاليف البرد الحسي الا ان تكاليف البرد الآخر الذي يلدغ القلب اضعاف مضاعفة، وهناك كثيرون يشبهون الحوذي الذي لم يجد من يسمعه غير حصانه، لكنهم لا يعترفون بذلك كما أنهم محرومون من تشيكوف آخر يسبر أغوارهم ويصدق معهم لأنه صادق ومنسجم مع نفسه.
والحقيقة ان التاريخ الفعلي هو ما يشبه المياه الجوفية، لا يراه أحد الا عندما يحفر كثيراً باتجاه منابعه، فما يقال علناً هو على النقيض مما يقال سراً. لكننا في النهاية ندفع ثمن الكذب المتبادل وقد تضاف إليه نسبة من رِبا الندم والألم.
يقال ان صراع الانسان مع المناخ شكل أنماط حضارته وابداعه، وحتى وقت قريب كان الناس يعتقدون ان ليالي الشتاء البيضاء الطويلة في روسيا هي ما أنتج روايات من طراز الحرب والسلام أو الاخوة كارامازوف.. والحقيقة ان ما يُنتج كل هذا هو البرد الآخر الذي ينخر الروح لا العظم!!
(الدستور)