حفيدي الحبيب هاني
قد تصلك رسالتي هذه حين تكون قادرا على القراءة وحُسن الإدراك والفهم ، وأكون قد فارقت الحياة ، وقد لا تصلك حيث تكون مشيئة الله عز وجلّ أن يكون في عمري بقية ، وأطلعك على ما أود شخصيا دون حاجة للكتابة أو القراءة .حفيدي الحبيب
اليوم 28 / 9 / 2007 حيث تتم العام الأول من عمرك السعيد والمديد بإذن الله ، وأنا أتم الـ 61 عاما من عمري ، فقد ولدنا في نفس اليوم ، وهذا يعني أن 60 عاما كاملة تفصل بين مولدك ومولدي ، فالفجوة بل الهوة الزمنية بيننا واسعة ، والمساحة بين عصرينا شاسعة .
لست في موضع المفاضلة بين عصري وعصرك ، فلكل عصر ظروفه ومقتضياته ، وله ما له ، وعليه ما عليه ، وسأكتفي بسرد وقائع وأحداث من زمني علك تدرك كيف كانت حياتنا ، وقد تكون معرفتك بحياة الأجيال الماضية درسا وحكمة ، ولك أن تقبلها وأقرانك أو لا تقبلونها ، لكني أعتقد من واجبي أن أعرفك عليها ، فمعرفتها لن تضرك بالتأكيد .
نشأت وأقراني في أسر ليس للطفل أي دور في أي شيء ، بل ولا يستطيع أن ينظر في عيون الآباء والأجداد والمعلمين رهبة وخوفا . ولا رأي له حتى في ما سيأكله ، ولا يستطيع أن يقرر هل يحب أحد صنوف الطعام أم لا ؟ لأنه إن فكر بذلك سينفذ الطعام قبل أن يجيب ، إذ سيتولى إخوانه وأخواته الإجهاز عليه ، فقد كنا نأكل ما يوضع أمامنا كالجراد ، وكنا لا نشرب الحليب أو الحساء إلا عند المرض ، فقد كانا من ضروب العلاج . تقبلنا من ذوينا فكرة أن في تناول الجبن ضرراً شديدا لآكله ، إذ سيوّلد ديداناً في معدته ، وأن أكل الزعتر تودي إلى سرعة استيعاب الدروس ، وذلك لرخص الزعتر وغلاء الجبن ، لقد صدقت هذه الخرافة ، وحملت بجيبي كمية من الزعتر ، عندما ذهبت لاستلام شهادتي المدرسية في نهاية العام وأنا طالب في الصف الثاني ابتدائي عام 1954 ، وكدت أختنق لكثرة ما " سففت " من الزعتر الجاف سعيا لتحسين نتيجتي في شهادتي المدرسية . كان الكثير من الأهل يكتفون بتدريس الأبناء المرحلة الابتدائية ، حيث يكون الطالب قد أنهى تلاوة القرآن الكريم ( الختمة ) إضافة للمواد الأخرى ، فظهر مصطلح ختم العلم . وكان الصغار يقضون إجازة الصيف في دكاكين ذويهم أو غيرهم لتعلم مهنة أو صنعة ما ، كما كان علينا عادة أن نلتحق بدكان الوالد عقب انتهاء الدوام المدرسي اليومي ، خوفا علينا من صحبة السوء من جهة ، ومن جهة أخرى كسب بعض المال مقابل أعمال بسيطة نؤديها.
كنا نجمع بين السذاجة والبساطة . هل تصدق أننا كنا نحتفظ بأسنانا التي سقطت لسبب ما ليلا ، وننتظر شروق الشمس ، ونلقى بها نحو قرص الشمس ونقول : يا شمس خذي سن الحمار وأعطني بدلا عنه سن غزال !! .
تربينا على لوم الاستعمار في كل فشل وإخفاق في حياتنا ، وأنه السبب في تخلفنا العلمي والاجتماعي والاقتصادي ، وكما ترى يا صغيري ذهب الاستعمار منذ عقود ، وبقي التخلف والتفكك بأنواعه المختلفة ، العيب بنا الآن وليس في الاستعمار . نشأت وجيلي ونحن نسمع الكبار يقولون عقب الانتهاء من شرب قهوة الضيافة : " بالعودة " لأعرف بعد ذلك بسنوات أنهم كانوا يقصدون العودة إلى فلسطين بعد النكبة ، ومرت سنوات وضاع باقي فلسطين بما عرف بالنكسة ، واختفت مصطلحات العودة ، ولا أدري ما ستكون عليه الأحوال عندما تصبح يا صغيري شابا ؟ إلى أي مدى ستتغير الخارطة السياسية والبنية الديموغرافية للمنطقة .
شاهدت وتفرجت على مظاهرات حزبية ، يحطم المتظاهرون فيها زجاج نوافذ المدارس وأعمدة الهاتف وغيرها من الممتلكات العامة والخاصة ، ويتبادلون الشتائم والاتهامات ، ومنذ ذلك الحين نفرت من كل ما هو حزبي . أعتقد بعدم الحاجة لحزب لأحب وطني وأهلي وأخدمهم ، ليكن الولاء والانتماء للوطن فوق كل شيء .
حفيدي الحبيب
امتلأت عقولنا بقصص الغيلان والسحرة وغيرهم ، خفنا الغريب ، والظلمة ، والوحدة ، ولعنّـا الفقر وقصر ذات اليد والمرض . وكان العقاب البدني سائدا جدا ، ومن العقوبات التي لا أزال أذكرها وضع قرون الفلفل الحار ودعك فم وشفاه الكاذب وشاتم الدين والمتلفظ بألفاظ بذيئة ، ويبدأ صراخ الصغير المعاقب من الألم ، وكانت الأمهات يعالجن أفواه صغارهن بمسحها بزيت الزيتون لتخفيف الألم بعد الحصول على وعد بعدم العودة للذنب ثانية . لقد سعيت عند تربيتي وجدتك لوالدك وعماتك أن نتجاوز أخطاء ذوينا في تربيتنا وتعليمنا وفق قناعتنا ، وقطعا سيسعى والداك لتجاوز أخطاءنا في تربيتهما وتعليمهما وفق قناعتهما.
حفيدي الحبيب
أرجو من الله العلي القدير أن يحفظك ، ويحفظ جميع صغارنا من كل سوء ، وينير دروبكم ، وأن تكون حياتكم وأيامكم افضل من حياتنا وأيامنا ، إنه سميع الدعاء .
haniazizi@yahoo.com