التغيير سنة الكون، فلا شيء ثابتا أبدا، فالظل مثلا جعله الله متحركا ممدودا، «أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً. ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً». (الفرقان: 45- 46).
وشأن القلوب كشأن الظل دائمة التقلب والحركة، فهي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيفما يشاء، فيمسي المرء مؤمنا ويصبح كافرا، أو العكس، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من القول (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فقيل: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: (نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كما يشاء).
قال لي أنه جاءه رسالة قصيرة من مكان قصي لا تحتوي غير كلمات قليلة: لقد تغير مسار الحكاية!.
كان ثمة في تلك البلاد صُحبة، تقادم عليها الزمن، ولكن ظلت جذوتها متقدة، فكم من الأصحاب وإن باعدت بيننا وبينهم الأميال يبقون أكثر قربا ممن يسكن الأحضان والأسِرّة، ولذا، حين تأتي مثل هذه الرسالة، تكون أشد مضاء من الطعن، ومع هذا، تبقى فسحة من الأمل في وصل ما انقطع، ولكن أنى لما انقطع أن يعود إلى حالته الأولى!
بالأمس القريب، التقيت مسافرا على عجل، أبناؤه الكبار في مكان، وهو مكان، والزوجة والصغار في بلد آخر، قال لي أنه مثال حي على «الشتات» ضحكت، فسألني عن سر ضحكتي، فأقسمت له أن أسرتي لم تجتمع منذ نحو ثلاثين عاما، فقد سافرت البنت الكبرى ورحلت عن الدنيا، ثم سافر الابن الأكبر، وحينما عاد، كان الوالد قد رحل، وفي الأثناء سافرت أنا، ولحقت الأم بالأب حزنا وكمدا على الراحليْن، ثم استنسختُ دونما قصد حالة «الشتات» في أسرتي الصغيرة، وتوزع الأبناء في الفيافي ومدن الاسمنت والكاز، ولكن بقيت الحكاية وإن أصاب مسارها الفتور أحيانا، لكنها ظلت متصلة!
وعود إلى حكاية صاحبنا، يقول لي، أن الحكايات تتحول بعد فترة إلى ذكريات وخواطر، وربما إلى قصص ترويها الجدات للأحفاد كي يناموا، أما حكايته، فتحولت إلى أطياف تبقيه مستقيظا حتى مطلع الفجر، فلا يأتيه النوم إلا حينما يهده السهر والسفر عبر الذكريات، فيغفو على طيف صاحب أو صاحبة الحكاية، ومع مرور الأيام، يبدأ في نسج خيوط حكاية أخرى!
هل تغير مسار الحكاية؟ أي سؤال هذا؟! والحكايات دوما يتغير مسارها، ويتوالد عن الحكاية الأولى سلسلة متوالية من الحكايات، الصغيرة والكبيرة، وفي كل تفصيل من تفاصيلها حكايات وروايات!
أهي متاهة؟ لا، بل ثمة في القلب احتقان، وفي الذهن دوائر متداخلة، وحكاياتنا الصغيرة والكبيرة ما هي إلا أقدار تسوقنا إلى مصائرنا، فليصنع كل منا حكايته، ولا بأس من ثم أن يرويها كما يشاء، ناقصة أو كاملة، ولكن هذا لا يغير من مسارها الحقيقي شيئا، فالحكايات تُسطّـّر في صحائفنا كما هي، كي نُحاسب عليها، عاجلا أم آجلا، فيا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
hilmias@gmail.cim
الدستور