علاقة الدين بالدولة .. سجالات للتغطية على الفشل
حسين الرواشدة
20-01-2012 03:55 AM
صحيح ، لا يوجد في الاسلام دولة دينية ثيوقراطية يتولى الحكم فيها فقهاء الدين او رجالاته ، وانما هنالك دولة مدنية تستمد تشريعاتها وقيمها من الاسلام ، هذا كلام ليس جديدا البتة ، ومع الاحترام لكل الذين يريدون ايهامنا بأنهم اكتشفوا العجلة ، فان كبار فقهائنا المعاصرين اتفقوا على ان الدولة في الاسلام لا تقوم على الحق الالهي قال ابو بكر في خطبته الاولى بعد الخلافة: اني وليت عليكم ولست بخيركم ، فان رأيتموني على حق فأعينوني وان رأيتموني على باطل فقوّموني.. ، كما انها دولة ديمقراطية تستمد قوانينها لا سلطتها من شرع الله ، وتستفيد من قوانين الغير متى احتاجت لذلك ، ولا يوجد في الاسلام شكل محدد للحكم ، وانما ثمة قيم تحكمه وللناس ان يجتهدوا في اختيار هذا الشكل ، وفي اختيار من تحكمهم سواء باليبعة او الانتخاب او الاختيار ، والحكمة في ذلك كله هي المصلحة العامة فحيثما وجدت المصلحة مصلحة الناس ومصلحة الامة فثم شرع الله.
العلاقة بين الدين والحكومة الدولة ان شئت في الاسلام لا تختلف كثيرا عن العلاقة بين الدين والدنيا ، الدين ليس هدفا بحد ذاته ، والحكومة كذلك ، كلاهما وسيلة لتحقيق مصلحة الناس وتدبير امورهم ، اما الغاية فيمكن اختزالها فيما يمثله الدين من قيم ، قيمة الطاعة للخالق ، وقيمة العدل والشورى والاخلاص والعمل والنظافة... الخ ، لا يمكن الفصل هنا بين الوسائل والغايات ، ولا بين عناصر العمل والانتاج ، فالسياسة جزء من الدين ، والدنيا ممر للآخرة ، والحكم وسيلة لتحقيق الخلافة والعمران.. والاهم من ذلك قيمة الانسان ومصلحته ، باعتبارهما المعيار او الهدف لكل من الدين والسياسة ايضا.
هل هذا شرف فكري ، اعتقد انه كذلك ، فالمهم الآن ليس هو حسم العلاقة بين الدين والحكومة؟ او بين الدين والسياسة ، وانما الخروج من هذه الاشتباكات لمناقشة قضايانا واولوياتنا: التنمية والتخلف ، الصحة والتعليم ومشكلاتهما ، التحرر من الظلم والاحتلال...الخ ، لاتاحة المجال للانسان: المواطن كي يتحرك وينهض ويبدع ، قديما قال فقهاؤنا ان الله ينصر الكافر العادل على المسلم الجائر الظالم ، فالعدل - اذن - هي القيمة الفاصلة بين التخلف والتقدم ، والدين يدعو الى العدل لكن ماذا لو كان التدين يمارس الظلم ، نحن نحتاج اذن الى قيم الدين لا الى استنساخ حروفه واشكاله ، الى طاقته الروحية والتشريعية لا الى فقهاء يحكمون باسمه ، او علماء يوثقون بالنيابة عن الله عز وجل ، العلاقة بين الدين والحكومة ليست اجرائية او فنية او هيمنة من طرف على آخر ، وانما علاقة فطرية ، طبيعية ، تصالحية ، فبمقدار ما تحقق السياسة من مقاصد وقيم ومصالح بمقدار ما تكون اسلامية او دينية ، وبمقدار ما يكون الانسان مبدعا وسعيدا ومنتجا بمقدار ما يكون نظام الحكم قد تماهى ايجابيا مع الدين وليس - بالضرورة - مع التدين باختلاف مفهوماته وممارساته.
في تجربتنا الاسلامية يمكن ان نلاحظ مسألتين: اولاهما ان فقه نظام الحكم في الاسلام كان ضامرا ومحدودا في الادبيات فقط مقارنة بأنواع الفقه الاخرى العبادات مثلا ، وثانيهما ان الصراع بين الفقيه والسياسي اخذ السمة الدينية مع انه في الاصل صراع سياسي محنة ابن حنبل مع المأمون مثلا ، فيما لا يوجد في النصوص الدينية الصحيحة اي نوع من التشابك السلبي بين الناس ناهيك عن ابناء الامة الواحدة ، سواء كان دينيا او سياسيا او حضاريا ، لأنهم محكومون لسنن التدافع الايجابي والانسجام وعلى هذا يمكن فهم نظرة الاسلام للكون والانسان والحياة ، وعلاقة الدين بالدولة ، كما علاقة الفقيه مع السياسي ، لا يمكن ان تخرج عن هذا الاطار.
باختصار ، ثمة من يريد ان يشغلنا بسجالات لا جدوى منها حول هذه الثنائيات التي اصبحت محسومة في فكرنا ، وربما في واقعنا ايضا ، وثمة من يريد ان يقول لنا: بان رجال الدين قادمون.. فلتحذروا منهم ، وهذا غير صحيح ، فالذين وصلوا الى الحكم في تركيا ، وحتى في ايران ، ليسوا رجال دين ، وانما مهندسون وخبراء ادارة سياسيون... لكن مرجعيتهم هي الاسلام ، وثمة من يتصور بان الحكم في الاسلام كهنوتي واقصائي وغير مدني ولا ديمقراطي..فيما الحقيقة التي لا يختلف عليها المنصفون غير ذلك تماما ، كما ان الاسلام السياسي الذي يطرح نفسه كشريك للحكم يدرك تماما ان الدنيا تغيرت..وان تجربة القرون الاولى لم تعد قابلة للاستنساخ.
لدينا قضايا اخرى اهم من كل هذه السجالات ، فلنبدأ بها ولن نغلب في فك اي اشتباك ان كان موجودا فعلا بين الدين والدولة.. اليس كذلك؟
الدستور