كان للعشيرة وجود موضوعي محدد زمانا ومكانا (والعرب معنيون بأنسابهم منذ كانوا، ولكل قوم موطنهم في كل حال) وكان أبناء العشيرة متقاربي المساكن، تضمهم عصبية واحدة، ويهبون هبة رجل واحدٍ في المنشط والمكره.
هذا الوجود الموضوعي للعشيرة انتهى منذ زمن ولم تبق منه الا ذكريات. وهذه الذكريات جميلة وذات قيمة أخلاقية وتربوية، ولعل العشائرية بحكم التطور الاجتماعي قد انتهت الى أن تكون نزعة وطنية تشمل كل أبناء الوطن، لكنها لم تعد ذلك الوجود الموضوعي المحدد، بعد أن تناثر أبناء العشائر في المدن والتجمعات السكنية المتباعدة، وبعد أن انخرط معظمهم في بنى اجتماعية مختلفة، وصاروا لا يرى بعضهم بعضا الا في مناسبات متباعدة ليتحدثوا في الغالب عن أوضاعهم المستجدة وعما حققوه في سياقات متباينة في إطار الدولة الحديثة التي رسخت جذورها وسنّت قوانينها الناظمة لحياة مواطنيها جميعا..
على أن من الملاحظ أن فهمنا الخاص للديموقراطية قد انتهى بكثير منا الى محاولة جعل العشائرية «واقعا انتخابيا» بعد ان فقدت واقعها الموضوعي. وهي «ردة» بكل معنى الكلمة عن الدولة الحديثة. وخروج بالعشائرية من سياقها الزمني، أو حتى مما توحي به «العشيرة» من معان جميلة، كصلة الرحم الواسعة، وكالنخوة والمروءة، الى حيث تكون «حيلة» لجمع اصوات الناخبين، الأمر الذي قد يؤول الى وصول بعض «المغامرين» الى البرلمان، مع ما في ذلك من تمكين أحيانا للضّعُفةَ وغير المؤهلين، ومع ما فيه من نكوصٍ ذرائعي عن مكتسب «الدولة» التاريخي..
لقد كان مما ذهب اليه المفكر المغربي عبدالله العروي أن ضعف الدولة واضطرابها كفيلان بدفع بعض الناس الى التماس مظلة «العشيرة» يحتمون بها ويلوذون، ولكن ذلك إنما يصح في حال كون العشيرة واقعا موضوعيا قائما. أما في حال انفراط عقدها، وتوزع أبنائها على بنى مجتمعية ومدنية مختلفة وانخراطهم في مواطنة دولة ذات دستور وأنظمة وتشريعات، فإن الأفق الوحيد للخروج من الضعف والاضطراب هو «الاصلاح»، الذي يعود نفعه على مواطني الدولة كلهم، والذي يستشعرون معه الأمن والاستقرار جميعا.
أما ما نراه من استغلال مغامري اليسار واليمين لابناء العشائر، أو من استغلال بعض هؤلاء لما بقي من آثار ذلك الواقع الذي كان في الوجدان، ومن الخروج به من دائرة القيمة والتراث الجميل الحافز الملهم، الى أن يكون ورقة رابحة في الانتخابات. فذلك ما ينبغي كشفه وبيان فادح عواقبه على الوطن، لأنه - في أوجز عبارة - تسخير للقيمة من اجل الانتفاع الشخصي، وذلك ما لا ينبغي ان يكون.
إننا جميعا بلا استثناء متحدرون من أصول عشائرية، وليس أحد منا «مقطوعا من شجرة». لكننا منذ أن أصبحنا مواطنين في دولة، فان الوطن كله هو عشيرتنا، وأن أي نكوص عن ذلك هو لعب بالمحظور وتغافل عن الواقع ومغامرة ذرائعية حمقاء، كل ذلك مجتمعا.
اننا نقرأ داحس والغبراء وسيرة بني هلال معتبرين، ولا نقرؤها محتشدين، وعظمة المدنية أنها تستبقي مراحل التاريخ, قريبة والبعيد، كامنة في أطر الفهم والاعتبار، وذلك ما نحن مدعوون اليه اليوم في مواجهة المغامرين والمتاجرين وسائر المنتفعين.
(الراي)