نحو ميثاق يحمي قيم الربيع العربي
15-01-2012 02:53 AM
".. الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج باتت تدرك أن العلاقة التي كانت سائدة في السابق بين الحاكم والمحكوم لم تعد صالحة للمرحلة التي تلي الربيع العربي".
في معرض حديثي لطلاب أجانب حول الحوار بين معتنقي الأديان المختلفة، قمت بطرح مجموعة من الأسئلة، والتي كانت تقدم مبادئ مستوحاة من ديانات سماوية وغير سماوية مختلفة، وطلبت منهم أن يسموا الدين الذي ينص على تلك المبادئ. ولعل المفارقة في هذه الحادثة تتلخص في كم الاجابات الخاطئة التي قدمها هؤلاء الخاضعون للاختبار، فقد التبست عليهم المبادئ ولم يعرفوا مصدرها الحقيقي، ببساطة لأنها موجودة في دينهم كما هي موجودة في أديان الآخرين.
على النحو ذاته، أعتقد أننا نخطئ أيضا عندما نصب جهودنا في الندوات والحوارات التي تتناول الحوار بين متبعي الأديان على بيان نقاط الالتقاء وأوجه الاختلاف، بينما لا أحسب أننا بحاجة لأكثر من مبادئ مشتركة بسيطة لتحقيق العيش المشترك مثل النص على احترام الجار ومعاملته بالحسنى، فما دام النص موجودا في ديانتي وديانة الآخرين، اذن نحن نمتلك الضمانة التي تؤمن لنا العيش المشترك والسلم الأهلي المنشود.
انها بمثابة نداء يوقظ أصحاب الضمائر الحية وينبذ الفتنة والعنصرية والتعصب أيا كان مصدرها، ففي هذه الأوقات بالذات، نحتاج إلى وقفة جدية لاستعادة القيم الانسانية المشتركة التي تجمعنا. فلنتأمل للحظة في الوضع الراهن، فإذا كان أتباع الديانات المختلفة السماوية وغير السماوية يشتركون بالكثير، فبالتأكيد هناك العديد من القواسم المشتركة أيضا بين أبناء الطوائف المتعددة للدين الواحد وأبناء الوطن الواحد. لقد أخطانا، بلا شك، عندما حسمنا موقفنا من الحراك العربي في كل دولة وفقا لهواجس طائفية أو حسابات ضيقة ولم نستطع أن نحتفل بالحرية والمساواة والعدالة التي تنادي بها المجتمعات العربية.
لا يمكن لأي طرف اليوم أن يغض البصر عن مطالب المجتمعات، والتي خرجت الناس تعبر عنها بصراحة في مناطق مختلفة، ويتصرف وكأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تسير على ما يرام، فالشعوب العربية من المحيط إلى الخليج باتت تدرك أن العلاقة التي كانت سائدة في السابق بين الحاكم والمحكوم لم تعد صالحة للمرحلة التي تلي الربيع العربي، بل إن اصلاحها واعادة تعريفها وتأطيرها بات ضرورة قصوى اليوم لضمان انتقال منطقتنا إلى مصاف الدول الديمقراطية أسوة بغيرنا من دول أوروبا الشرقية وغيرها التي عانت من الاستبداد وغياب الحرية ثم وجدت طريقها إلى الديمقراطية.
إن هذا الانتقال بالتحديد هو ما ألهم فكرة الميثاق الاجتماعي العربي، وجعل من وجوب إخراجه إلى حيز الوجود حاجة ملحة اليوم في ضوء التطورات الجارية. تقوم فكرة الميثاق الاجتماعي المقترح على محاولة ايجاد تلك العلاقة السليمة والديمقراطية بين الحاكم والمحكوم والتي تتطلع اليها شعوب نهضت من أجل المطالبة بالتغيير. يطرح الميثاق، والذي لا بد وأن يكون وطني المنشأ ويعبر عن ارادة عربية أصيلة لا تنبع الا من منطقتنا، قواعد تنظم العلاقة بين أركان الدولة وتسمح بتغيير الحاكم دوريا ويلزم الجميع باحترام حقوق الانسان الأساسية والحريات بما يضمن لنا المضي قدما وعدم العودة إلى عهود من القهر عانى فيها الأفراد وفقدوا الشعور بكرامتهم الانسانية.
أحسب أن المطالبين في الحرية اليوم في مصر وتونس وسوريا واليمن وغيرها من البقاع العربية يرغبون في ايجاد تلك الوثيقة التي تحمي مطالبهم على المدى البعيد وتطمئنهم بأن جهودهم وأرواحهم لن تذهب سدى، فحراكهم يحقق المطالب على المدى القصير، ولكن الميثاق الاجتماعي الذي يناسب شكل المنطقة الجديد ووثيقة الحقوق الأساسية والمسؤوليات هي التي تحمي الحراك من العودة إلى نقطة الصفر.
وأحسب أن وثيقة جامعة تتحدث باسم الشعوب العربية وتعترف بحقها في الحرية والكرامة الانسانية والعيش الكريم سوف تكون من أهم انجازات الربيع العربي والتي سيوثقها التاريخ للأجيال القادمة التي نأمل أن ترى التزاما جديا بهذه الحقوق والمسؤوليات من قبل الجميع. وحتى لا تكون هذه المقترحات شبيهة بما سبقها من مقترحات لم يكتب لها النور وبقيت في الأدراج لعقود حتى أصبحت قراراتنا مدعاة تندر وسخرية، فإنني أعتقد بأن علينا أيضا انشاء المؤسسات التي تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ ما جاء في الميثاق والوثيقة ومراقبة أدائنا في مجال حقوق الانسان والحريات.
اذا كانت ستراسبورغ تحتضن المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان، وكوستاريكا تحتضن محكمة الأمريكيتين لحقوق الانسان، وتستضيف تنزانيا المحكمة الأفريقية لحقوق الانسان، فمتى يحين الموعد وتحتضن مدينة عربية المحكمة العربية لحقوق الانسان؟ أعتقد جازما بأن الموعد قد حان، خصوصا ونحن نشهد مئات الألوف من المواطنين العرب الذين خرجوا إلى الشارع بسبب غياب مؤسسة مستقلة يملكون حق التظلم لديها واللجوء اليها في حال انتهاك حقوقهم. من هنا، فإن انشاء المحكمة العربية لحقوق الانسان يأتي في اطار جهود ايجاد وتفعيل مثياق اجتماعي ووثيقة حقوقية تصنع مستقبل أجيال تتوق إلى الحرية والكرامة والعدالة. وفي هذا الصدد، لا بد لنا من التأكيد بأننا سنخسر الرهان ان بقينا نتحدث عن الحقوق ونسينا ثقافة المسؤوليات، فعندما غادر ألكساندر سولجنيتسين الاتحاد السوفياتي السابق، روى أنه خرج من دولة الكل يتحدث فيها عن الحقوق، ثم عندما وصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وجد النقيض فقد كان الجميع يتحدث عن المسؤوليات، وتساءل حينها ان كان هناك نهج يجمع بين المسؤوليات والحقوق، فلنقم نحن اليوم ونخلق ذلك النهج الذي يجمع بين المسؤوليات والحقوق على النحو الذي يحقق العدالة للجميع في الوطن العربي.
كما تستحق منا أوطاننا أن ننشئ الجامعة العربية لحقوق الانسان، فنحن اليوم أمام أكاديميات تطلق على نفسها أسماء من قبيل «أكاديميات التغيير» وتقدم نفسها على أنها راعية التغيير في العالم العربي حيث تسوق لنا «الخطوات المطلوبة لاسقاط حكوماتنا»، بينما لا نملك نحن مؤسسة عربية أصيلة تقع في قلب العالم العربي وتقاوم ثقافة «التلقي» لتكون هي الأكاديمية والجامعة التي تخلق أجيالا عربية مؤمنة بثقافة حقوق الانسان. لا أحسب أن ما ينقصنا هو الأموال المطلوبة لإنجاز هكذا مهمة، بل نحن في الغالب بحاجة إلى ارادة حقيقية ورؤية واقعية لأولويات شعوبنا وليس أولويات لا تلقى تجاوبا في شارع عربي يهاجر منه مئات الآلاف سنويا ويسقط فيه المئات من الضحايا طلبا للحرية وليس لأولويات باهتة واستثمارات لا تعني للمجتمعات شيئا.
بالتأكيد، فإن لدينا العديد من المنظمات الحقوقية العربية التي تعمل في المنطقة، ولكننا لا نرى دورا فاعلا لهذه المنظمات ولا نجد لها موقفا حازما من الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان، حيث لا تخرج هذه المؤسسات في العادة عن دائرة «التلقي» هي الأخرى، ولا زلنا غير قادرين على الحد من الثغرات القانونية وغيرها من العوائق التي تسمح لمرتكبي المخالفات بالافلات من العقاب تحت ذرائع مختلفة.
في الواقع، يؤسفني أيضا أن الناشطة اليمنية توكل كرمان وجدت جائزة عالمية بثقل جائزة نوبل للسلام لتكرمها، ولم تجد جائزة عربية تعترف بجرأتها ونضالها من أجل مجتمعها، وهي ليست الوحيدة بل إن مئات الناشطين الحقوقيين العرب لم يجدوا جائزة عربية تكرمهم. على الرغم من أننا نقدم عدد من الجوائز في المنطقة، إلا أنها لا تتمتع بأي ثقل ولا تحظى بتغطية اعلامية كتلك التي تحظى بها الجوائز العالمية، وأما في مرحلة ما بعد الربيع العربي، فقد آن الآوان أيضا لأن «يكرم النبي في وطنه».
خلاصة القول هي أننا اليوم بحاجة إلى كل ما يؤسس لدولة القانون والمؤسسات، وكل ما يحقق المساواة للجميع بغض النظر عن الطوائف والاثنيات وغيرها من الفوارق الاجتماعية. نحن بحاجة إلى ميثاق حقيقي لا يشبه أيا من الوثائق والقرارات السابقة التي تلتف على المطالب ولا تدعمها بكل ما أوتيت من قوة. كما آن الأوان لازالة القناع عن الدين، فنحن لا نقبل بالتطرف أيا كان مصدره، وفي الوقت الذي تهدم فيه الكنائس، كان العديد من الكنائس الأخرى قيد الانشاء وقد شاركت شخصيا في زيارة الكنائس التي بنيت مؤخرا. وليس أدل على أن الاسلام الحقيقي يرفض التعصب من دعوة الأزهر الشريف إلى اعادة بناء الكنيسة التي تعرضت للهجوم في الاسكندرية، ودعوته أيضا إلى مبادرة تؤيد الدولة الوطنية الدستورية الحديثة التي تحترم التعددية.
لا أمل من التكرار والقول مجددا بأننا جميعا نحمل مسؤوليات جمة تجاه أنفسنا وتجاه مجتمعاتنا، فإننا مستخلفون في الأرض، وقد زالت الغشاوة اليوم وعلينا أن نكون أهلا للمسؤولية.
عن الدستور