في الوقت الذي يرتفع فيه صوت العلماء والمفكرين المستنيرين من هذه الأمة حول التعدد في ظل الوحدة.. ويجهرون جاهدين لاحتواء الاختلافات بين الطوائف المتناحرة من المسلمين.. ويسعى فيه المفكرون الحركيون في أمتنا للتنسيق مع أعداء الأمس من أقرانهم أصحاب الاتجاهات الفكرية الأخرى في اتجاه توحيد الجهود العملية الإصلاحية بين الإسلاميين والقوميين واليساريين.. وتقوم فيه على قدم وساق محاولات تقريب المسافات بين كل جهد أيا كان مصدره الفكري في سبيل نهضة هذه الأمة متجاوزين أخطاء الأمس والتنازع غير المبرر في سبيل بناء الثقة بين كل المختلفين من أبناء الأمة..وفي الوقت الذي يتوجب فيه تعميق ثقافة وأدب الاختلاف وتعميق ثقافة قبول الآخر.. من أجل اتساع الرؤية على قاعدة أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها.. وفي عصر تتحرك فيه كل الرؤى والآراء والأفكار عبر الأثير وفي متناول كل يد.. في هذا الوقت بالتحديد يخرج علينا الأزهر الشريف ( بقرار أعجب من العجب.. وأغرب من الغرابة.. يقضي بوقف تدريس الفقه على المذاهب الأربعة!!! لطلاب الثانوية الأزهرية.. واستبداله بتدريس (الوسيط في الفقه لمؤلفه الشيخ سيد طنطاوي شيخ الأزهر) والقرار اتخذه المجلس الأعلى للأزهر ويجري العمل به في مطلع العام الدراسي الحالي.. ودون إبداء أية أسباب!! غافلا متخذ القرار أو متغافلا عن أن الفقه بالذات كان على مدى الأزمان الساحة الأوسع للاختلاف والتعدد بحيث يرى فيه صاحب الحاجة سعة فيما يسعى إليه أو يبحث عنه من مسائل.. وأنه ( أي الفقه) يخضع كما ينبغي للتجديد والسيرورة مع اختلاف الأزمنة والظروف واختلاف الثقافات والمجتمعات ومقبولات الشعوب ومرفوضاتها حتى أصبح من الاتساع بدرجة تجعل ما يصلح لبيئة وشعب وقارة ربما لا يصلح لغيرها.. وما يصلح منه لأقلية مسلمة في بلد غير مسلم غير الفقه الذي يصلح للبلد المسلم..الخ
واستبدال تعدد الفقه (بموجز) يعبر عن وجهة نظر واحدة رسمية أتت من شيخ الأزهر سيد طنطاوي من شأنه أن يحصر الثقافة الفقهية لدى طالب الثانوية الأزهرية الذي ينتظر منه أن يتخصص في الإفتاء وعلوم الدين وأن يقود في المستقبل حركة العلم الشرعي وتجديده والاجتهاد فيه بما يساير حركة الحياة والتقدم .. ينحو به منحى أحاديا في التفكير وعدم قبول الآخر. ولا أنسى هنا أن الشيخ سيد طنطاوي (مع احترامي لشخصه) هو أول شيخ للأزهر في التاريخ يتم تعيينه من قبل الرئيس المصري وليس منتخبا من هيئة علماء الأزهر كما هو الحال لدى كل سابقيه.. مما ينبئ عن رغبة في توجيه طرائق الفهم الديني والفكر الفقهي باتجاه ما تريده المؤسسة الرسمية وما تراه المؤسسة الرسمية للحكم.. وشطب ما سواه منذ تأسيس عقل التلميذ في المرحلة الثانوية الأزهرية. وهو ذات الأسلوب (للأسف ) الذي تتبعه بالمقابل الأحزاب والجماعات الإسلامية المعارضة للمؤسسة الرسمية مع ناشئيها.. وبهذا يتكامل فعل (التربية التفكيرية باتجاه واحد) لدى طرفي معادلة الحياة في أقطارنا .. ويبقى (الكل يرفض الكل).. بدلا من (الكل يقبل الكل) وتضيق آفاق الفهم لدى الطرفين ويتعمق النظر بعين واحدة ومن زاوية واحدة لدى الجميع..
وقد يكون من الطبيعي بعد ذلك ما دام الأزهر مرجعية دينية لدى الكثير من الأقطار الإسلامية أن تنحو تلك الأقطار ذات النحو.. فتقوم كل مؤسسة حكم بتكليف وزير أوقافها مثلا.. بجمع ما يؤمن به من آراء وأفكار.. والاكتفاء بتدريسها بدلا من التراث الفقهي الإسلامي بكل ما فيه من تنوع وتعدد واختلاف من أجل توجيه التفكير الديني باتجاه رسمي واحد يخدم مصلحة السلطة القائمة فقط.
ويطيب لصديقنا خميس بن جمعة أن يربط (ربما على نحو تعسفي) بين هذا القرار وقرار حكومتنا بإخضاع الصحافة الإليكترونية لقانون مراقبة المطبوعات.. فهو ينحو إلى توجيه الرأي العام في الاتجاه الذي تراه الحكومة ويجعل ما سواه مخالفا يستحق العقاب.. فهل صرنا في زمن تحكم فيه وجهة النظر الرسمية طرق التفكير في الفقه والتوجيه في الإعلام والتعبير في الكتابة وطرائق التعبير الأدبي والدراما والسينما وأطفال الأنابيب وهندسة الجينات ومصارف الزكاة على حد سواء؟؟
http://atefamal.maktoobblog.com/