أكمل اليوم عامي الخامس الخمسين. وقد صارت عادة أن أخصّص مقالة كلّما تقدّم بي العمر خمس سنوات، وأعود لمقالة الخمسين، فلا أنتبه لتغيير يُذكر، سوى أنني نفّذت بعده قراراً متأخراً بإعتزال عمّان، والعيش في بيت متواضع، حميم، في غابة دبين، حيث الطبيعة الساحرة، وروعة الهدوء، وكثير من القراءة وقليل من الكتابة، وكلابي الذين صاروا خمسة!
أما في الخامسة والأربعين فكنتُ أرى نفسي متفائلاً بالآتي وراضياً بالراحل ، ثمّ أعود لمقالة الأربعين فأرى التفاؤل أكثر، باعتبار أنّه سنّ النبوّة ، أمّا في الخامسة والثلاثين فقد كانت لي صحيفة تمنيت لها طول العمر ، راحت هي في خبر كان في العام التالي ، وبقيت أنا.
في الثلاثين ، كتبتُ مذكّراً أستاذي الكبير ، الصحفي اللبناني ياسر هواري بأنّني صرت رئيس تحرير وصاحب صحيفة في آن ، قبل أن أدخل العقد الرابع ، وكان قد تحدّاني قبلها بسنوات باعتباره أوّل من صار رئيس تحرير لمجلة عربية قبل أن يبلغ الثلاثين ، أن أفعل الشيء نفسه ، وفي تلك المقالة لم إنس أن أذكّر نفسي بأنّ الحبّ الذي أبحث عنه لم يأت بعد.
في الخامسة والعشرين لم أكتب ، فقد كنتُ مشغولاً بالبحث عنّي ، وفي العشرين كتبتُ واعداً نفسي بالتقاعد في الأربعين ، والتفرّغ للكتابة فحسب ، ومنذها على فكرة كتبتُ ستة آلاف مقالة على الأقل ، في عشر صحف عربية على الأقلّ أيضاً ، وما زلت أنتظر ساعة التقاعد عن العمل لأبدأ بالكتابة.
أكمل اليوم ، إذن ، العام الخامس و الخمسين من العُمر ، راحت منها سنوات خمس و ثلاثون ، على الأقلّ ، في الصحافة والكتابة ، ولو أنّ قطار حياتي سيتوقف اليوم ، لعاجلته بكتابة عنوان كذلك الذي كتبه بابلو نيرودا لمذكراته: “أعترف بأنّني قد عشت” ، ولو استطعت لأضفت إليه أغنية: “فعلتها بطريقتي” بصوت ديانا روس ، ولو استطعت أيضاً لقفزت من القطار لأبدأ رحلة أخرى في قطار آخر سأجعله يحمل رائحتي ، ونكهتي ، ولكنّني لن أغيّر في مساره إلاّ قليلاً.
وعليّ أن أقول هنا ، كما قلتُ قبل خمس سنوات، حتّى لا أفهم خطأ ، فأنا موجود بينكم حتى إشعار آخر أتمنى أن يطول ، وذلك ما لن يُرضي قراء يجدونني ثقيل ظلّ ، وسياسيين يعتبرونني مشاكساً مزعجاً ، وخصوماً يتمنّون لي السكوت ، أمّا المحبّون وأظنّهم كثر فسينتظرون منّي مقالة بعد خمس سنوات ، وأخرى بعد عشر ، وأخرى بعد خمس عشرة ، وبعدها فلا أعد أحداً بشيء ، فعلمها عند ربّي.
الدستور