اخشى، حقيقة، ان يخسر القطاع الاعلامي فرصة جديدة لتوسيع هوامش الحرية عبر الايغال في تحويل الهامش المتاح الى ساحة لتفريغ الغرائز والضغائن وبعض القيم غير المستحبة بدلا من استثمار هذا الهامش في خلق حوارات جادة تتناول القضايا الوطنية الخلافية بروح من المسؤولية .انا اتحدث هنا عن الصحافة الالكترونية المحلية التي بدأت تأخذ موقعها بين ضروب الاعلام الاخرى ، هذه الصحافة يبدو انها على أعتاب خسارة الهامش المتاح لها ولنا جميعا عبر ايغالها - في بعض الاحيان - بتكريس خطاب غرائزي ضغائني لا يقيم ادنى اعتبار لقواعد الحوار الموضوعي المتزن بحيث فتحت - بهذا السلوك - العيون على هذا النمط الجديد من الاعلام لجهة البحث عن ذرائع ومبررات لتقييده بضوابط ربما تكون قيم الحرية هي الخاسر الاول.
وحتى اصدق المتحمسين لقيم الحرية قد يجد نفسه - ان استمر الحال - بين خيارين: اما الفوضى غير الخلاقة والمسفة في غالب الأحيان او بين قيود غير مقبولة وتجافي روح العصر فضلا عن كونها تحد من حرية التفكير .
قبل عشرة اعوام حدث ان خسر الاعلام الاردني فرصة حقيقية في ولوج فضاء جديدا من الحرية الاعلامية عبر قيام بعض الصحف المستجدة في استغلال قانون المطبوعات للعام 1993 بصورة تنافت وروح ذاك القانون الذي احسن النية بالقطاع الاعلامي فكان حسن النية من سوء الفطن اذ تم استثمار الفضاء المتاح عبر انتاج نمط من الصحافة المستجدة التي كانت أحيانا تحرج البلد الذي تصدر فيه، فالمانشيتات الفضائحية والاسفاف والفبركة والكذب في معظم الاوقات كان هو السائد بحيث اسلمت هذه المؤسسات الصحافية العصا لخصومها لكي تضرب بها فكانت النتيجة تلك الردة غير الحميدة عن ذاك الفضاء التحرري وتم اغلاق 13 صحيفة اسبوعية بجرة قلم في مثل هذا الشهر من العام 1997 .
ومن كان يتابع المشهد الاعلامي يعرف جيدا ان دفاع رئيس وزراء سابق على مدى العام 1996 لم ينجح سوى في تأخير الردة ولولا مرافعات رئيس الحكومة انذاك عن الاعلام لكانت حدثت تلك الردة قبل ذلك الوقت ولما عاش قانون ال 93 لأكثر من عامين لكن قوى الشد العكسي كانت اقوى من المدافعين عن حق الاعلام في الحرية وجاءت حكومة جديدة في ربيع العام 1997لتضع حدا مؤلما لجمعة مشمشية من الهوامش الاعلامة المقبولة.
تلك التجربة لم يقرأها الاعلام الاردني بما يكفي ليستخلص العبر حيث تجري الآن عملية اعادة لفصول الاستثمار الخاطئ للسقف فصلا فصلا وهذه المرة على صعيد الاعلام الالكتروني حيث اعيد انتاج الاسفاف والضحالة وتم تسويقها على انها الحرية الاعلامية المنشودة وهاهي الاصوات المحافظة تعود لتلوح مجددا لفرض قيود على هذا النوع الوليد من الاعلام.
اذا كانت بعض الصحف الاسبوعية قد أفسحت المجال للمحافظين فيما مضى للعودة عن الهوامش التي خلقها قانون المطبوعات للعام 93 عبر عوامل عديدة متداخلة تشابكت فيها الرغبة في الثراء السريع لدى ناشرين واللهاث المحموم على انتاج الاثارة مع رغبة جامحة لجيل كامل من الصحافيين الشباب في اثبات تواجدهم في الساحة الاعلامة فان الصحافة الالكترونية الآن تستطيع تدارك الأمر وتوسع من قائمة الحلفاء والانصار المؤمنين بحرية الأثير عبر ارسال رسالة عاقلة للمجتمع وقواه الحية تجعلهم يطمئنون الى ان الفضاء الجديد سوف لن يكون ساحة لاستحضار لغة داحس والغبراء واثارة الغرائز الجهوية والمناطقية والعشائرية بطريقة تذكرنا بما كان يحدث على صفحات بعض الصحف في النصف الاول من عقد التسعينات.
ما يريح نسبيا ان ابطال الحقبة الماضية ليسوا بيننا الآن على المستويين الاهلي والرسمي وبالتالي يمكن استنقاذ المناخ الديمقراطي في الصحافة الالكترونية - وهو الاعلى في البلاد الآن - شريطة ان لا يعاد انتاج مناخات الصحافة التي سمحت بوأد قانون المطبوعات للعام 1993.