الخوف كل الخوف أن يتسع مراكز القوى ويتعاظم أعداد "المتدافعين" و"المدافعين" عن الأمن الوطني الأردني الى حد يصعب التنبؤ في مدى السيطرة عليه غدا.
لا أتكلم عن المنظور الضيّق والقصير ولكن ما قد يخبئ بين جنبات المنظور الطويل وبعيد الأمد. مستقبل أمننا الوطني قد يكون في مأزق حقيقي اذا استمرالبعض في تبسيط التحديات الداخلية من جهة والمبالغة في تعظيم الوضع الأمني "المطمئن" من جهة أخرى. صحيح أن الوضع الأمني الداخلي بحمد الله الان لا زال بخير .... ولكن!
ظهر علينا مؤخرا وبشكل متنامي تشكل جماعات ونقاط قوى متعددة ومتشعبة يصعب حصرها وتتبعها. أحدى أشكال هذه القوى وقد يكون أهمها, ظهور "جماعات ضغط" من براثين التجمعات العشائرية يمكن أن نسميهم "العشائريون الجدد" حيث كان لهم وما زال دور في التأثير على حركة المسار السياسي الداخلي والحراك الوطني على حد سواء.
يكاد يطل علينا كل يوم اسم جديد لحراك جديد أو تجمع جديد وباسماء وأعضاء جدد. لا انتقص من قدر أحد منها لا سمح الله فنحن أولا وأخيرا وباعتزاز جزء من هذا المكون العشائري شئنا أم أبينا. ولكن بغض النظر عمّا اذا تم ظهور هذه "القوى" طبيعيا وتلقائيا أم لا, فان الواقع الحال السياسي يحدثنا بان هنالك تحول وانتقال تدريجي في القوة من داخل العشيرة الواحدة بحيث يعظّم دور التكنوقراط والمتعلمون العشائريون على حساب دور المرجعيات العشائرية والمشايخ في كثير من الأمور.
ان انسحاب بساط "السلطة" تدريجيا من تحت أقدام كثير من المشايخ ووجهاء العشائر, فسح المجال أمام "العشائريون الجدد" لأخذ زمام المبادرة وذلك لانحسار المرجعية العشائرية في زمام المبادرة في طرح مبادرات أكثر فعالية وتأثيرا على السلوك العام لأفراد العشيرة, وعلى وحه التحديد, انحسار اعتراف "العشائريون الجدد" بدور واستمرارية الرموز العشائرية التقليدية ولو بشكل مبطن. يعود ذلك الى عدّة أسباب أدت الى مثل هكذا متغيرقد يكون أهمها فشل المرجعيات في ابراز دورها ونيل ثقة ابناء العشيرة حيث أن كثير من الشيوخ فشلوا في تغليب المصلحة العامة للعشيرة على المصلحة الخاصة, على غرار اباءهم وأجدادهم رحمهم الله, وعليه أصبحوا "كالشيوخ" خاصة وان بعضهم طالهم شبهات في الفساد واخرين فشلوا في تلبية مطالب رعيتهم عندما تبوؤا المناصب والحقائب.
ومن هنا أصبحت المشيخة عبئا عليهم, اذ ان حملها ثقيل لا يتحملها الا لمن تجلّت له وعرف كيف يسوسها ويكرمها ويحميها ومن هنا كانت المشيخة تتزيّن بهم وبجمال صنائعهم لا بجمال عباءاتهم. وعليه يتطلب شرف حملها شخصية قيادية لها القدرة على القيادة لا الانقياد وراء المصالح الفردية والعائلية, وكذلك الجرأه في الطرح وتحمل المسؤوليه والنخوة في المواقف والتأثير والحنكة والحكمة والشجاعة والاقدام وغيرها من الخصال والمكارم. من تحلّوا بها كانوا كانوا كثر وكانوا قادرين على الحفاظ على الوطن ومقدراته في أشد المواقف وأحلك الظروف التي مر بها وطننا الغالي... زمن الرجال الرجال!
وعليه فان دور العشيرة سيبقى مهما في المعادلة السياسية الأردنية ولكن بتغيّر تدريجي وبطيء في مراكز القرار والقوى من داخلها, اذ يبدو وكأنه بدأ يأخد منحى اخر يخالف الدور المعتاد والتقليدي. كيف لا, والثورات العربيه قامت بالأصل عندما تحولت الرجال الى اصنام وغلبت المصالح الخاصة على المصالح العامة وساد الفساد وعمّ الطغيان. وعليه فان هذا الأنقلاب التدريجي (ان صحّ القول) يعد انقلابا مصاحبا ومرافقا للانقلابات في المنطقة وزلزالا ارتداديا وتلقائيا للزلازل العنيفة التي حدثت في المنطقة. ما حدث هو بالفعل ما تحدّث الأرض الان عن حالها وأحوالها بصراحة وشفافية, ان ارتضينا ذلك ام أبيناه, و تحليل ووصف للأحداث يجب التوقف عندها وتغليب عنصر أمر الواقع الذي نعيشه والواقعية التي سقناها على أنفسنا, على عنصر العاطفة والتمني والانكار.
ما انعكاسات تنامي هذه القوى من الداخل على امننا الوطني؟ يصعب التنبؤ بالتأكيد ولكن ان طغت بالفعل هذه الظاهرة على جلّ القوى العشائريه, فان من المتوقع ان "يستحسن" البعض مثل هذا التطور كون "العشائريون الجدد" ساعدوا على "فرض الاستقرار" و"كبح جماح" قوى منافسة ومتنامية أخرى. ولكن لا يرى الكثيرون, بان عنصر "الفائده" أو "الايجابية" يشخّص على المنظور القصير, ومن هنا يبقى السؤال المهم ما مدى تنامي هذه الظاهرة والقوى في المنظور المتوسط والبعيد؟ وما مدى تأثيرهم على الامن القومي والاستقرار في البلاد؟
باتأكيد الاجابة يجب ان لا تحمل في طياتها عنصر "النوايا الصادقة" أو"الحس الوطني" بقدر ما تركز على عامل "القوة" كركيزة وعنصر اساسي للتحليل وكيف توزعت ومع من انحصرت وكيف تم امتلاكها ومتى وأين وكيف يمكن تحييدها واحتوائها ان تطلب الامر ذلك! ما من شك, بقدر ما تشكله من اهمية على المنظور القصير, قد يشكلون في الوقت ذاته "عبئا" امنيا مصاحبا قد يصعب احتواءه أو تحييده في المنظور البعيد خاصة اذا امتد وابتعد عن مساره واطاره أو اذا فقدت بوصلتة واتجاهاته والاخطر من ذلك ان صعب علينا تحديد ملامح قياداته أو مراكز ومواقع التأثير فيه. كان أسهل في الماضي للدولة في التعاطي مع أعداد معروفة ومعدودة من الشخصيات ووجهاء العشائر, ومن هنا القوه الممنوحة لهذه القوى امنه ومسيطر عليها, كان يسهل استردادها أو مدّها بالمزيد. ما من شك بأن نوايا كثير هذه القوى صادقه ونقيه ولكن في عرف السياسة هذا المنحنا يظل مرفوضا كون الهدف الأسمى للدولة, كان ولا يزال, البقاء والديمومة بغض النظر عن الاعتبارات وطبيعة النوايا.
المعضلة الأمنية للدولة الاردنية اليوم فيما يتعلق باّلية اتخاذ القرار, تبدو محيّرة للغاية, كونها تنحصر في ايجاد معادلة توافقية وعاجلة في الوقت ذاته تراعي المصلحة الأمنية على المدى القصير من جهة والمصالح الأمنيه للمدى الطويل من جهة أخرى.