لا تدعوا الفرصة تفوتكم لمتعة مزدوجة
26-12-2011 04:46 PM
لو كان مسرحا كوميديا تجاريا لأمكن بصدق تعليق يافطة تقول "ساعتين من الضحك المتواصل" لكن ليس بهذه الطريقة يعلن عن مسرح سياسي هادف أو "مناضل" مع أن السخرية والضحك هي عماده الأساس.
عبثا تفترض أن الصنعة تستطيع أن تصنع شخصية كهذه، انها هبة ربّانية متفردة لا تتكرر ولا تطابق الا ذاتها مثل بصمة الاصبع. وكما يقسم الارزاق والأكوان والكائنات يقسّم ربّنا الشخصيات. هكذا حضينا بشخصية الفنان موسى حجازين نموذجا أردنيا خالصا.
وللحقيقة فان حجازين ابن السماكية قرب الكرك هو النتاج الحرفي لهذا الخليط الممتزج لشخصية الأردني البلدي والريفي والبدوي، فكان مرآتنا وهويتنا بكل ما فيها من متناقضات جمعها في شخصية واحدة يضفي عليها ما يشاء من التضخيم الكاريكاتيري وفق الموقف والضرورة ليمتعنا الى اقصى حدّ بالنظر لأنفسنا في المرآة المحدبة أو المقعرة، النظر لأنفسنا وسلوكنا كأشخاص أو مهن أو مؤسسات أو حكومات.
كلما حضرت عملا لحجازين لا أستطيع أن أتخيل الفراغ القائم بدونه، أنه بصمتنا الخاصّة بلا بديل، ولذلك خرجت من المسرح قبل يومين وأنا أدعو الله أن يحفظ صحته ويبقيه لنا بكامل لياقته البدنية والمعنوية فهو سبق وان مدّ "وصلتين" في قلبه المجهد وأنني لأتعجب أن يتحمّل القلب كل هذا الانفعالات التي لا تتوقف على مدار الأيام .
لا يختلف مسرح موسى حجازين الأخيرعن سوابقه سوى بمواكبة آخر مستجدات الساحة السياسية، أي الربيع العربي، ولك ان تتخيل اي مادّة يوفرها الدكتاتوريون العرب وأنظمتهم لعمل ساخر تم اختيار عنوانه العبارة الشهيرة لزين العابدين بن علي الذي وبعد أن انفرد بخمسة رئاسات متوالية وربع قرن من الحكم المطلق ظهر يترجّى التونسيين الثائرين قائلا "الان فهمتكو"!!
ويبقى الشأن المحلي في اطار الربيع العربي هو الموضوع الرئيس وفي القلب منه الفساد ورداءة ادارة شؤون الحكم، وأنتقي على سبيل المثال الفقرة حول طريقة تشكيل الحكومات عندنا (آخر 3 حكومات في سنة واحدة) التي شبهت باليانصيب الخيري مع الغش في استخراج الأرقام ثم اللجوء الى جوائز الترضية للغاضبين وكل المواقف تتنافس في تفجير الضحك بلا حدود وبالطبع على طريقة شرّ البلية ما يضحك.
بعد حضور جلالة الملك المسرحية لا تستطيع الا ان تفكر مع كل مقطع يحمل هذه الجرأة اللامحدودة والسقف العالي أن ما تشاهده قد شاهده الملك، وقد تيقنت من موسى حجازين شخصيا ان الليلة التي حضر فيها جلالته قدمت المسرحية بكامل فقراتها وأن كل كلمة سمعناها سمعها الملك الذي شدّ على يد حجازين مهنئا ومشجعا وموافقا على النقد الذي قدمته المسرحية.
في هذه المسرحية التي يخرجها المبدع مجمد ضمور يتابع حجازين وفريقه من الممثلين ثنائيته مع الكاتب الساخر والرائع أحمد حسن الزعبي الذي ورث الثنائية القديمة لحجازين مع مبدع آخر هو محمد الشواقفة ومن الصعب تبين فوارق جوهرية بين المرحلتين سوى ان الزعبي اقلّ ميلا للخطابة السياسية المباشرة مع أن المسرحية الأخيرة لم تخل منها ومن جهتي كنت أفضل لو تم التخفف من تلك الفقرة القصيرة الجدية والشعاراتية .
انعكاسات الربيع العربي لا تصل الى الأردن فحسب بل الى بيت أبي صقر الشخصية التي ورثت في كهولة حجازين شخصية سمعة في شبابه. وهو شخص متجبّر بأهل بيته كما يجدر عادة بأردني رجل، لكن هذا الجبّار خارج البيت هو ضحية لتجبر الحكم. أي أن الدولة تتسلط عليه وهو يتسلط على بيته، وتكون نهاية المسرحية تمرد اهل البيت على دكتاتورهم الخاص الذي يحاول بعد فوات الأوان التودد للأولاد والأم ورشوتهم بتخفيف القيود والاستجابة لبعض مطالبهم وكانت اللقطة المبدعة الأخيرة الأب يحمل على ظهره صورة كبيرة له وهو بالفوتيك ويده على الشبرية يجحر مقطب الوجه من ينظر اليه وكانت الصورة تتصدر المسرح طوال الوقت وحين يستدير الأب للجمهور يظهر بحالته الحقيقية الأخيرة وهو على وشك أن يرحل بملابسه الداخلية فاقدا هالته يجرّ نفسه ذليلا خائبا خارج المسرح.
ذهبت لرؤية المسرحية في منتصف الأسبوع ومع ذلك كان المسرح ممتلئا ويستحق ان يبقى كذلك لشهور أخرى فأي متعة مزدوجة أن تشاهد معا فنّ حجازين ورحيل الدكتاتوريين.